تخلّق النوع الأدبيّ وتطوره بين إرادة الفرد وسلطة الجماعة د. بتول جندية

بحث في قضية النوع الأدبي، والقوانين التي تحكم تخلقه وتطوره - بحث محكّم / د. بتول جندية

تخلّق النوع الأدبيّ وتطوره بين إرادة الفرد وسلطة الجماعة

الأنواع الأدبية، نظرية الحداثة، التراث الأدبي، الأدب العربي، نظرية الأدب
بحث محكّم في مجلة بحوث جامعة حلب 
سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية منشور بتاريخ 10/10/2010 
لتحميل نسخة pdf من البحث

الملخص 

يتتبّع البحث مسيرة حياة النوع الأدبي؛ تخلّقًا وتطورًا، بغية الكشف عن علل وجوده، وقوانينه الداخلية الناظمة، والإرادات المتعارضة المتعاونة لتكوينه وتمييزه ومنحه خصائصه. وعلى الرغم من أن الدراسة تفيد من الفكر النقدي الغربي في برهنة قضاياها ومقولاتها، ومنحها أساسًا مقبولاً من الاطّراد والتعميم، فإنها تطمح إلى أن تكون إسهامًا عربيًا في التنظير للنوع الأدبي؛ لأنها في مجملها خلاصة مدارسة طويلة في الأنواع الأدبية التراثية، وحصيلة جهد دؤوب لفهم آلية نشوئها وتطورها، واستخلاص للمقولات الكلية المتوازنة التي تقف خلف الأحكام النقدية والتصنيفات البلاغية التي تصدمنا أحيانًا ببساطتها وقصورها الظاهري! 

على الرغم من تعمّد البحث استنطاق التجربة النوعية التراثية، فإن القوانين المستخلصة هنا من ربط الظاهرة النوعية الواعي بالحركة الحضارية وبالقيم الفكرية، تطّرد في التجارب الأدبية المتزامنة حضاريًا لا تاريخيًا، وتصدق في جزء منها على بعض مراحل الأدب الغربي الذي يتغذى في مراحل أخرى من قوانين نوعية مغايرة ألمحنا إليها في بعض السياقات. 
ورد البحث للمجلة بتاريخ ـا 7/6/2010
قُبل للنشر بتاريخ ـا 10/10/2010 

المقدمة: 

عدّت الحداثة كشفها عن قانون تداخل الأنواع والفنون فتحًا أدبيًا ومنعطفًا في مسار الفن، فكرهت على أثر ذلك التمايز، وحاولت جاهدة تحقيق التماهي بين الأنواع والفنون ثورة على الحدّية الصارمة التي اختبرها الأدب الغربي في مراحله السابقة؛ إذ بُني على العزل المنطقي الحادّ بين الأنواع الأدبية، والمطالبة الدائمة بنقاء النوع وصفائه، وقد ورثت الكلاسيكية هذا المبدأ، وقبلته، من النقد اليوناني الذي تشبّع بالمنطق الفلسفي، وما كان من الرومانسية إلا أن ثارت عليه بقدر، ونادى خلفاؤها بكسر الحدود النوعية، حتى أُعلن فناء الأجناس في النصيّة، لأن النصّ يتناصّ لا إراديًا مع نصوص سابقة متنوعة من حيث التصنيف النوعي، وهو يمتلك "قوة داحضة للتصنيفات القديمة"، فلا معنى لاحترام الخصوصية النوعية في الكتابة الأدبية، بل تصبح الكتابة الأدبية الجيدة ممارسة لعملية الخلخلة النوعية، ينظر: [1]: (ص49). [2]: (ص15 وما بعد)، وينظر: [3]: (ص12 وما بعد)، وأيضًا: [4]: (ص306-308)، وكذلك: [5]: (ص57). ولما كان الظاهر أن كشف الحداثة المتعلق بالنوع الأدبي غير مسبوق، فإن واقع الأمر، وجديد القول، أن النظرية الأدبية التراثية التي تُقدَّم على أنها نموذج واضح للحدّية النوعية، ينظر: [6]: (ص16)، قامت على أساس الاعتراف بالتداخل الطبيعي بين الأنواع الأدبية على أنه الأصل، والانطلاق منه إلى التمايز الضروري المضبوط بغايات عليا، وبشبكة سلطات متعارضة؛ وهذا مصدر فرادة الموقف الأدبي التراثي وسبقه. ويتوخّى هذا البحث استلهام التجربة النوعية التراثية لاستخلاص تصور نوعي أصيل، ومتحرر في الوقت نفسه من خصوصية تاريخ الأدب الغربي التي حكمت نظرية الأنواع الحديثة، ووجّهت أحكامها النقدية وممارساتها الإبداعية، وقادتها إلى إثارة خصومة متوهَّمة بين مكونات الأدب وأنواعه، وطلب صلح جائر بأي الأثمان. ومع ذلك فإن البحث يحرص جهده على إغناء أطروحاته بما يؤيّدها من مفاهيم حديثة، وما يعين منها على مدّ مساحة نتائجه واكتساب الاطراد لها. 

النوع تمايز مؤسَّس على التداخل: 

تشترك الأنواع الأدبية في مادتها الخام؛ اللغة، كما أنها تنتسب إلى أصل كلي واحد هو الأدب، والأدب ـ فيما عدا أنه المنجز الأدبي عبر التاريخ ـ اسم يختزن إمكانات الاستخدام الجمالي للغة جميعها، ما كان وما يكون، والنوع تخصيص من هذه الإمكانات واختيار بعضها والتشديد عليها، والخواص النوعية المائزة ليست ذاتية ولا حصرية، والفرق فيها كمي لا نوعي، يقول كوهن: "والفرق بين الشعر والنثر كميّ أكثر مما هو نوعيّ" [7]: (ص23)، وينظر: [6]: (ص17). وينظر: [8]: (ص121)، كما أن الأنواع ليس بعضها معزولاً عن بعض، وليس هناك نوع نقي مطلقًا، أو خالص منزه عن غيره من الأنواع، لأنه لن يكون أبدًا منزهًا عن اللغة، وعن شروط الإنتاج الجمالي للغة، فـ"الحدّ الذي يفصل الأثر الشعريّ عن كل ما ليس أثرًا شعريًا هو أقل استقرارًا من الحدود الإدارية للصين" [25]: (ص10-11). وإن مؤسسة الأنواع توظّف التداخل الطبيعي من أجل إبراز التمايز النوعي، إذ تعتمد خواص النوع الذاتية على قاعدة عريضة من المشترَكات العامة التي تتسع وتضيق بحسب الحاجة أحيانًا، وطلبًا لإبراز التمايز ذاته إبرازًا واضحًا أحيانًا أخرى، فقد عدّ ليو سبيتزر الأسلوب الأدبي "انحرافًا فرديًا بالقياس إلى قاعدة ما"، الأمر الذي يقود ـ كما يقول كوهن ـ إلى "وجود ثابت في لغة جميع الشعراء يظل موجودًا برغم الاختلافات الفردية، أي وجود طريقة واحدة للانزياح بالقياس إلى المعيار. أو قاعدة محايثة للانزياح نفسه" [21]: (ص16)، وهذا الكلام يصدق على طبيعة الانزياح، كما يصدق على تشكّل الأنواع، إذ لولا وجود القاعدة لما عرف الانزياح والخروج على المألوف، ولما تجلّت عبقرية الخواص النوعية الفريدة. 

على أساس هذا الفهم قام التراث العربي؛ النقدي والإبداعي معًا، وعلى الرغم من أن المشهور أن التراث عانى من مشكلة الصرامة النوعية التي يجسّدها مفهوم "عمود الشعر"، فإن الصحيح أن التراث أقرّ التداخل النوعي وانطلق منه لتحقيق التمايز، وذلك عندما عدّ البلاغة أساساً مشتركًا في الأنواع كلها، ومعيارًا جماليًا عامًا يسمح بتداخلها من دون التأثير في تمايزها أو جودتها، وإن التمايز الذي يفرضه التراث هو التمايز الذي يلبّي مطالب حضارية أو حاجات إنسانية كلية، أما ما وراء ذلك فإن التداخل هو الأساس، ولا فرق بين أصناف الكلام إلا بقدر الإجادة وتحقيق شروط القول البليغ، وهذه الشروط نفسها متولِّدة عن إملاء حضاري ومعرفي ولغوي وجمالي، وتمثّل استجابة مثالية لطبيعة العقل العربي ولذهنيته المتميزة. إذن فالتداخل التراثي الذي نتكلم عليه يغاير التداخل النوعي في التجربة الحداثية المعاصرة، فهو لا يتحقق عن طريق ذوبان الأنواع بعضها في بعض، وفناء خصائصها الذاتية، بل يتحقق تحققًا طبيعيًا واجبًا في أصل الأنواع نفسها على تمايزها واستقلالها الوظيفي، وهذا ما يسمح بتداخلها من غير أن يخلّ التداخل بمستوى الأداء الرفيع في أي نوع من الأنواع. ولكن كيف ضمن التراث الأدبي الوصول إلى هذا المستوى من التداخل الإيجابي؟! لم يتأتّ للتراث أن يصل إلى هذا الغرض إلا باشتراط معيار بلاغي واحد في الفعل اللغوي كله، سواء كان نوعيًا أو غير نوعي، فالبلاغة هي الأساس الذي تجتمع عنده الأنواع، وتبني تقنياتها تحت إملاء غاياته وذائقته الكلية؛ فلما عرّف العرب البلاغة بالإيجاز وجدنا الإيجاز يحكم البناء الداخلي للنوع الشعري والنوع القصصي كليهما، فإذا تداخل النوعان فلا جور ولا ابتذال، وليس يترتب على اللجوء إلى الهدوء النثري أو الإقناع الخطابي هبوط في لغة الشعر، أو خلل في تكوينه الداخلي وإحكامه الفني. وعلى الرغم من أن الوعي النقدي بهذه القضايا كان إجرائيًا أكثر منه نظريًا، فقد تجلّى الموقف النوعي التراثي هذا في التحديدات النقدية للأنواع الأدبية ولأبواب البلاغة وتطبيقاتها، فتمييز الشعر من غيره من الأقوال بالوزن والتقفية مستند إلى هذا الموقف وقائم على أساسه، لأن ما سوى المعيار الموسيقي هو شروط بلاغية جمالية عامة يجب أن تتحقق في القول البليغ؛ شعرًا كان أو نثرًا، والنقاد الذين سوّقوا لمفهوم عمود الشعر، وتعنّتوا أحيانًا في الاحتكام إلى التقاليد الفنية، قبلوا الكلام المروي الشفاهي غير النوعي معيارًا لأحكام البلاغة من دون أي احتراز، بما أنه يحقق شروط القول البليغ، ينظر باب "من القول في المعاني الظاهرة باللفظ الموجز، من ملتقطات كلام الناس"، في [9]: (1/210 وما بعد)، وفي المقابل لم يُعرف عنهم رفض الشعر التعليمي أو التأريخي أو إنكارهما، لأن النقد وعى أن للشعر بخصائصه النوعية الماثلة مثل هذا الدور، وإن لم يعتبروه مجالاً لعملهم، ونبهوا في أكثر من موضع على مواطن الضعف في نظائر هذه النصوص، ومن قولهم فيها: "ليس هذا شعرًا، هذا شرح إسلام، وقراءة آية" [10]: (ص249). صحيح أنه ندّ من النقاد العرب تحت سلطان الحفاظ على الموروث، ونقاء الذوق العربي، وصايا تجنح إلى قولبة طرائق جاهزة، ونمذجة أساليب الأسلاف، وتعليب النوع في تقاليد مكرّرة محفوظة، إلا أن النقد لم يكن ليوجّه الشعر ولا الأدب، فسلطة النص ظلت على الدوام هي التي تصنع النوع وتوجّهه وتخطّ ملامحه، ورقابة الجماعة التي لا تجتمع على ضلالة تحميه وتمنحه الشرعية والمباركة، إلى أن فقد الشعراء البديهة، وانقادوا من ثم للنقد يصنعون على هدي وصاياه أشعارهم التقليدية الجامدة، ويتطامنون إلى الطرائق النوعية الجاهزة التي تختزنها النصوص القديمة التي بين أيديهم. 
النوع نتاج سلطة النص وإجازة الجماعة: 

الواقع أن الضوابط النوعية تبرز على أنها قيود لأننا نبدأ من النوع ومن التمايز، ولأن الأنواع هي المواجهة لنا بسلطتها وكينونتها الواضحة وقوانينها المستقرة، ولكن الحقيقة أن الأنواع الأدبية تتكون من خلال النصوص (الأعمال الأدبية) المفردة نفسها، وعبر عمليات التجريب الفني، وليس استيحاء لنموذج مثالي مطلق متعالٍ سابق على الأداء وواجب الاحتذاء، فالنص سابق على النوع ومؤسِّس له؛ لأن النوع يتكون عبر عملية الإبداع نفسها، ومن خلال تراكم النصوص المفردة، وإذا كان الأدب انتقاء فرديًا من إمكانات اللغة، فإن النوع انتقاء جماعي من إمكانات الأدب، وتأكيد بعض الخصائص دون بعض؛ إبداعًا وتلقيًا، وتستمر عمليات الحذف والإضافة حتى يتخذ النوع صورته الناجزة المكتملة التي تتطور مع الزمن قوة وضعفًا، وهذا التطور محكوم بالعلل نفسها التي فرضت النوع وأكسبته شخصيته المتميزة. وتتضح وجاهة هذا الاستنتاج من خلال مراقبة نشوء نوع "المقامة" التراثي، فهو أبسط صورة لتخلق النوع، وأوضح مثال لحراكه وتطوره، فقد ولد من إرادة فرد مبدع تجسّدت في نصّ فائق جدير بالمحاكاة استجابت خصائصه اللغوية لحاجات عصره؛ الجمالية والمعرفية والاجتماعية؛ فحظي لأجل ذلك كله بإقرار جماعي، وتبنٍ إبداعي. 

إذن، قبل أن يأخذ النوع صورته المكتملة يمرّ عادة بمرحلة تجريب وامتحان جماعيين، وقد يولد مكتملاً مباشرة في هيئة نصّ ناضج، إلا أنه لا يتحوّل من نصّ إلى نوع ما لم يحظ بإجماع؛ إذ تتداخل في إنتاج النوع الأدبي إرادتان؛ فردية وجماعية؛ الفردية المتحققة عن طريق الإبداع، وإنتاج النصوص، وبقدرتها على التعبير عن الجوهري والكلي؛ إنسانيًا ومحليًا. والإرادة الجماعية تتحقق في صورة إجماع ضمني، أو إقرار جماعي، بإجازة بعض النصوص الفردية دون بعض، فهي المراقب العام على الأدب الذي ينتظر منه ما يعبر به عن المشترك الإنساني، وعن حاجات الجماعة الثقافية، وغاياتها، ومثلها، وذوقها الجمالي. وتترجَم الإرادة الجماعية في عمليتين؛ الإبداع الذي ينتخب من مجمل المنجز الأدبي الأساليب والتقنيات الفريدة ويتمثّلها، ويتخذ من الأعمال الفردية العظيمة معيارًا ومطمحًا ونموذجًا للاحتذاء والاتباع، ويلتفت عن الأعمال الضعيفة ويهملها، ويحصل عن عمليات التمثل والتراكم للجيد المجمع عليه ملامح مشتركة تبرز من خلالها هوية النوع الأدبي. والعملية الأخرى التلقي الذي يتذوق الأدب فإما الاستحسان والمباركة وإما الإزراء والإهمال، وتؤثر نتيجة هذه العملية في عملية الإبداع، وتلقي عليها بظلال غير مدرَكة في كثير من الأحيان. ويطلع من ذلك أن هناك سلطتين تتعاونان لتشكيل النوع الأدبي ولبقائه واستمراره أو تطوره، هما: سلطة النص، وسلطة التلقي. فسلطة النوع من سلطة النص، والنصوص هي التي تحتوي قوانين النوع، وهي التي تخلقه وتوجهه وتطوره، وتصدق ههنا تمامًا كلمة حمودة: لقد "ظل الإبداع يقنّن لنفسه" [11]: (ص51)، وتتسرب قوانين النوع عبر النص إلى النفس المبدعة من خلال اتصالها المباشر بالنصوص وتخزينها في الذاكرة، ولهذا كان الحفظ خطوة أساسية في امتلاك المخزون الأدبي اللازم للإبداع، وعن طريقه تنطبع صورة النوع وتستقر، ينظر: [12]: (ص171-173)، وهذا جوهر كلام ابن خلدون حين قال: "يُعرِّفكَ فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلّيّ المُجَرَّد في الذهن من التراكيب المعيَّنة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها... وهذه الأساليب ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبُّع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها في النفس فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر... ولهذا قلنا إن المُحَصِّل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم" [13]: (1/787-788). ولكن الحفظ ينبغي أن يكون موجَّهًا، فلكي ينطبع القالب الكليّ يجدر أن تكون أغلب النصوص المحفوظة من نوع ما يراد الإبداع فيه، يقول سويف: "الإطار الذي من شأنه أن يسيطر على توجيه الفعل يلزمه درجة معينة من "القوة" يفوق بها سائر الأطر، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نستنتج أن الشاعر بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، شخص يحمل إطارًا شعريًا أقوى من كل أطر التعبير الأخرى" [12]: (ص176). ويؤكد مبدأ التناص الحديث في أساسه الفلسفي أن نصوص الأسلاف تفرض نفسها على المبدع فرضًا، وأن أعماله خليط من نصوص سابقة، وإذا هذبنا هذه الفكرة من آثار المبالغة والحتم والجبرية([1])، نصل منها إلى نتيجتنا نفسها، فالسطوة التي تملكها نصوص الأسلاف تضمن انتقال النوع واستمراره، وتهيئ لولادة أنواع جديدة تدخل في جدل سلب أو إيجاب مع النصوص القديمة. ولذلك اشترط النقاد العرب نسيان المحفوظ حتى لا يتملّك النفس ويستبدّ بالإرادة المبدعة، يقول ابن خلدون: "وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتُمحى رُسُومه الحَرفيّة الظاهرة إذ هي صادرةٌ عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها وقد تكيَّفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوالٌ يؤخَذُ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورةً" [13]: (1/790). وسلطة التلقي تواجه سلطة النص وتقوّمها وتضبطها أو تشجعها، وهذه السلطة؛ أي التلقي، تتنوع؛ تذوّقًا ونقدًا، أما التذوق العام فحساس جدًا للتوتر السطحي والخفي، وبوصلة أفق التوقع توجهه وتهديه إلى ما هو شاذ وغريب عن ذوقه، لأن "تذوقنا للأعمال الفنية، ليس سوى تنظيم لإدراكنا لهذه الأعمال داخل أطر "إستطيقية" نحملها في مجالنا النفسي" [12]: (ص161)، والثقافي، فنقبل منها أو نطّرح بحسبها. وقوة التلقي العام، أو ما يعرف بالجمهور، تأتي من الإجماع وعدم إمكان اتفاقه على ضلالة، فـ"قد يخطئ الجمهور جزئيًا ولوقت ما، ولكن لن يكون الخطأ شاملاً ودائمًا" [7]: (ص19)([2])، لا سيما في المجتمعات ذات التكوينات الجماعية المتماسكة، والمعيارية الأخلاقية الملزمة، فقد "قال إبراهيم بن عبد الله بن حسن لأبيه: ما شعر كُثيّر عندي كما يصف الناس. فقال له أبوه: إنك لم تضع كثيرًا بهذا، إنما تضع بهذا نفسك" [9]: (2/195). ويبقى النقد المنظَّم السلطة الأوضح، والأقوى أحيانًا، ولكنه ليس ملزمًا للنص الفائق القادر على تجاوز القوانين المستخرَجة من النصوص السابقة، والمحدِّدة لأعراف النوع الذي ينتمي إليه النص الجديد، وهذا محكوم ببيئة الخصب الإبداعي التي تسمح لقائل أن يقول لخلف الأحمر: "إذا سمعتُ أنا بالشعر أستحسنه فما أبالي ما قلت أنت فيه وأصحابك"([3])، [14]: (ص8)، وبهذه الثقة استطاع الفرزدق أن يواجه النقاد اللغويين بقوله: "علينا أن نقول، وعليكم أن تتأوّلوا"([4])، [15]: (5/ 145). والعادة أن تعلو إرادة النقد على إرادة الإبداع في مراحل ضعف الإبداع، أو في حال تملّك النقدَ عصابُ التصنيف المنطقي الحاد، فيؤدي تصلّبه انتصارًا لشكل معين إلى خنق اتجاهات جديدة، أو إلى ردة فعل إبداعية مضادة مسرفة في تطرفها، أو إلى حالة جمود وخواء عام، وقد شهدنا ثورة الأدب الغربي على نقده المنطقي المتزمّت، ومن قبل عرفنا أثر التقسيمات البلاغية الرياضية، والقوانين النقدية الصارمة في انزلاق الأدب العربي إلى حالة جمود مزمنة. ومع ذلك، تظل سلطة التلقي وسلطة النصّ في جدل دائم يحفر مجرى الأدب، ويشرّع قوانينه، ويقولب أنواعه، ويبرز أعرافه، ويعبّر عن الذوق الجمالي للأمة المعنية، ويمثل إرادتها الحضارية. 

النوع استجابة وظيفية لغايات كلية، ووحدة من الزمني والمطلق: 

تلبي عمليةُ التشكل النوعي مجموعةً من الغايات الملحّة، وتخضع لضغطها، من هذه الغايات ما هو اجتماعي معرفي يشبع الحاجات النفسية والروحية للأمة، ويعبر عن قيمها الاجتماعية، ويستجيب لوعيها وضروراتها المعرفية. ومنها ما هو ذوقي جمالي يعبر عن المثل الجمالية اللغوية والفنية والقيمية، وهذا الذوق نفسه محكوم بغايات الأمة ومثلها وقيمها وأدواتها المعرفية. ومنها ما هو لغوي تفرضه غايات اللغة نفسها؛ كالتوصيل والتعبير والتأثير والتغيير والإعلام.. كما تفرضه طموحات النفس الإنسانية لإيجاد أشكال لغوية ناضجة تسمح بإشباع أقصى ما يمكن من حاجات، واختزان أجلّ الآمال، ولذلك رأينا اللغة تتّحد بالتاريخ في النوع القصصي، وتتّحد بالموسيقى والتصوير في النوع الشعري، ينظر: [4]: (ص162 وما بعد، وص279-280). إن خصائص النوع الأدبي هي ـ بحسب هذا التصور ـ استجابته الوظيفية للكلي والمطلق؛ حضاريًا أو إنسانيًا، يقول شيلنج: "إن ما يميز الشعر في ذاته هو ما يميز جميع الفنون، وهو تمثيل المطلق أو العالمي فيما هو خاص"، ينظر: [16]: (ص56)، ويرى إليوت "أن كل عصر يتطلّب أشياء مختلفة من الشعر... ولكن بين المتطلبات جميعها والاستجابات المختلفة.. هنالك دائمًا عناصر دائمة ومشتركة تمامًا كما أن هنالك مستويات للكتابة الحسنة والكتابة السيئة مستقلة عن حب وكراهية أي منا" [17]: (ص136)، وعلى هذا الأساس يصدق نسبيًا قول العقاد: "كل شاعر صالح لزمانه فذاك هو الشاعر الصالح لكل زمان" [18]: (ص236). إذن، يتشكل النوع الأدبي تحت ضغط حاجات إنسانية كلية عامة لا تستغني عنها البشرية، يبرهنها تاريخ الأدب المقارن؛ ولذلك نجد أنواعًا أدبية عالمية ذات خصائص تكوينية واحدة في الحضارات المختلفة، ولأجل هذا ذاته نجد في بعضها أنواعًا أدبية متفرّدة ذات سمات خاصة لا تماثلها فيها حضارة أخرى تكون استجابة لضرورات ثقافية واجتماعية غير مشتركة. إن الشعر باعتباره قولاً موقّعًا، وآلة تصوير مركّزة، هو نوع أدبي عالمي يحاكي طموحي فنّين غير لغويين، ويستقوي بآثارهما؛ هما الموسيقى والتصوير، وبهذه السمات يحتفظ الشعر بحضوره الملحّ لدى الحضارات المختلفة مهما شرّقنا أو غرّبنا؛ صينية وفارسية ويونانية وعربية وأوروبية حديثة.. وعند الشعوب البدائية كذلك، وهذا يعني أن النوع الشعري يستجيب بخواصّه الموسيقية والتصويرية لحاجات إنسانية مشتركة فرضت نفسها على الشعوب المختلفة والحضارات المتباينة، ومنحت النوع الشعري أثره اللذّيّ الفائق حتى ظُنّ أنه لذلك صار أرقى الأنواع الأدبية. وكذلك قل في النوع القصصي، فالقصة عامة تقوم بالدور الذي يقوم به التاريخ، ولكن بأسلوب جمالي فني يقصد منه العبرة والتعليم عن طريق التأثير. ويبقى النثر تلك المادة الحرة القابلة للتشكّل في الأغراض كلها، لامتلائه بخصائص الأنواع المختلفة، أو هو الوجود الحر المطلق للأدب، والمعنى الكلي له. فهل هذا يعني أن الأنواع الأدبية تتباين فيما بينها في القيمة الذاتية مطلقًا؟! يُظنّ غالبًا أن الشعر أرقى الأنواع الأدبية، أو هو "أخلص صورة لتجسيد الأدب" [3]: (ص12)، لما قلناه من أثره اللذّيّ، وغناه بالتقنيات الفنية، وتقاطعه مع الفنون الأخرى، لا سيما الموسيقى؛ ذلك الفن المغرق في التجريد، ينظر: [19]: (ص97..) فإذا أضفنا إلى هذا أن النوع الأدبي ينضح باللذة كلما ازدادت القيود، لتشع المهارة، وتبهر عبقرية الصنعة، يكون الشعر قد حاز قصب السبق في ميدان تنافس الأنواع. بيد أن هذا الظن يغدو موضع ريبة إذا استحضرنا القوة الوظيفية القارّة وراء تشكّل النوع واكتساب خصائصه المتميزة، بالإضافة إلى أن الطرف الآخر من المعادلة الوظيفية النوعية يؤكد أن لكل نوع في سياقه الحضاري دوره الذي لا يغني فيه غيره، فالإمكانات اللغوية الرحبة التي تقدّمها التقنيات القصصية لا يفي بها الشعر المبني على أساس الإيجاز في التركيب، والانضباط في الوزن. وهذا يعني أن استحقاق النوع جدارة استقلاله النوعي متأتٍّ من جدارته بتحمّل وظائف جليلة تستجيب لحاجات إنسانية مطلقة أو حضارية خاصة، ومنزلة النوع الحضارية والثقافية والاجتماعية متعلقة بدوره الوظيفي تعلقًا كبيرًا، وإنما كان الشعر عند العرب ديوانهم لِمَا أسندوا إليه من مهام لم يقدر غيره من الأنواع على حملها، فصار له لذلك عمود يقيمه، واكتسب صفاته النوعية من قيامه بهذه المهام، وكذلك صار للخطابة عمودها لما تحولت مع الإسلام إلى شعيرة دينية تدخل في صلب كثير من العبادات، أما المقامة فإنها نوع أدبي خاص ظهر في حضارة معينة في مرحلة بعينها استجابة لحاجات حضارية وثقافية واجتماعية خاصة زال بزوالها. واليوم تكاد الرواية تصير ديوان العرب الحديث بعد أن انحسر دور الشعر، وانحرفت وظيفته، وتبدّلت خصائصه، وتطورّت تقنيات الرواية بما يلائم طبيعة الحياة العربية المعاصرة؛ اجتماعيًا ومعرفيًا. 

ويكتسب النوع الأدبي جدارة استقلاله النوعي داخل إطار ثقافي محدد من كفاءته في أداء المهام التي يتفرّد بأدائها، وتحت ضغط الحاجات الحضارية الملحّة تتّضح ملامحه وتتشّكل صفاته، ويتحول من ثم إلى نظام، أو مؤسّسة؛ بتعبير ويليك [4]: (ص295)، ذات قوانين وأعراف مستقاة من قوة الإجماع، ومن كونها إحالة إلى أفضل ما تم إنجازه، وأجدرِه بالتعبير عن الذوق الجمالي للأمة، فالشعر العربي بخصائصه الشكلية المتميزة، وعموده النوعي الخاص، كان استجابة مثلى لحاجات حضارية ومعرفية ضاغطة على العرب وظروف حياتهم، فتناظر الأبيات وتوازيها، ووحدة الروي والتزام قافية متواترة، ووحدة البيت واستقلاله، وإيجاز اللغة ووضوحها وزخرفتها؛ صوتيًا ودلاليًا، واشتراط الوضوح في الدلالة والقرب في التشبيه مع قبول المبالغة في غير إحالة.. كلها خصائص نبتت من ضرورات التربة المعرفية الشفوية، وحاجة العرب إلى نصّ موجز يضبط في الذاكرة ويختزن معارفهم ومثلهم وأخلاقياتهم، بالإضافة إلى الحاجة الأخلاقية إلى صياغة النماذج الكاملة، وتقريب المُثُل القيمية. 

وإذا صحّ ما وصلنا إليه من أن التمايز النوعي مُعلَّل بضغط وظيفي، وأنه تبلور لإرادة جماعية ملزِمة، ومظهر أدبي لقوة الإجماع الغالبة، ترتّب على ذلك أن تقوى ظاهرة التمايز النوعي وتشتدّ في المراحل الحضارية التي تكون الوسائل فيها عين الغايات، وهي عادة مراحل فعّالية حضارية يسود فيها النزوع الجماعي، ويمكن أن نضرب لها مثلاً الأدب الغربي في المرحلة الكلاسيكية، وأدب العرب القديم، وأدبهم لعصر النهضة والإحياء. وبالضدّ يقف النزوع الفردي الطاغي، وإلغاء المرجعيات الكبرى، واختلال العلاقة بين الغاية والوسيلة، خلف ظاهرة الميوعة النوعية التي تجسد دوافع فردية لا تعترف بالحدود، ولا بالمقاييس المشتركة، وتبحث عن مساواة مطلقة تتجاهل السلطة الوظيفية، ولذلك تخسر الأنواع الأكثر قيودًا، والأقل تأثيرًا في الواقع والحياة، خصائصها وتنفرط في الأنواع الأقوى والأكثر تحررًا ومرونة، ولأجل هذا عينه نجد الشعر المعاصر يذوب ويذوي في النثر الذي ترى سوزان برنار أنه "عنصر فوضوي خام" [8]: (ص141)، ولما "استحوذت على الشعر الفوضوية، هيمن عليه النثر أكثر فأكثر" [8]: (ص250 بتصرف)، وهذا إنذار بتلاشي الظاهرة النوعية، وتخلي الأدب عن مكاسبه التاريخية وتنائج خبراته الجماعية ليعود القهقرى إلى بدائيته الأولى. 

إبداع النوع وتلقيه مطابقة وانزياح معًا: 

لا يتعارض مبدأ ذاتية الأنواع الأدبية، وانتظامها الداخلي في قوانين ضابطة، مع مطمحين للأدب؛ الإبداع والانزياح، ولا مع خصوبة التلاقح النوعي وتناسل الأنواع وتداخلها، لأن الصيغة الناجزة للنوع ليست نهائية، فإمكان تطويره مستمر أبدًا ما دامت القوانين مستمدة من النصوص، والنصوص الفائقة قادرة على تطوير النوع وتعديله، وما دامت اللغة الأدبية لحضارة ما محكومة بذوق جمالي واحد يحقق نفسه من خلال الأنواع كلها، ويفرض شروطه العامة عليها جملة. أما الخروج على النموذج النوعي، أو استبداله، فلا بد لذلك من التفوق عليه أولاً، ومن امتلاك اعتراف وإجماع مماثل لكسر الإجماع القائم ثانيًا، ولتوافر هذا الإجماع ينبغي أن يتوافر تحول مواز ومؤسِّس في الحساسية الأدبية، والظروف الاجتماعية، والتوجهات المعرفية. وقلنا إن الغالب أن يعيق تطور النوع، ويحوله إلى قوالب جامدة صارمة، اثنان: نقد حدّي متصلّب، أو ماضوي متكلّس، ناجمين عن جمود في الحياة الأدبية والفكرية والاجتماعية، وضعف المبدعين اللغوي والثقافي. فإذا ما تهيأ للأدب ظرف إبداعي صحّي فإن قيود النقد لن تعيق تطوير الأنواع الأدبية أو تمنع تجاوز أعرافها السائدة، وفي مثل بيئة الوفر الإبداعي هذه لم يكن للنقد العربي القديم، على الرغم من صرامة وصاياه أحيانًا، أن يعيق مسيرة الإبداع، ويقيّد تطور النوع الشعري، ويعطل إمكانية تناسل أنواع أدبية جديدة، وظل الشعر/النص على الدوام يستجيب لحاجات العصر، ويتغير بتغيرها ضمن أطر ذوقية وثقافية عامة لم تتبدل كليًا، يقول ابن رشيق: "..ولكني بيّنت أن طريق العرب القدماء في كثير من الشعر قد خُولِفتْ إلى ما هو أليق بالوقت وأشكل بأهله" [20]: (1/301). فلما ضعف الشعراء وعجزوا عن إنتاج نصوص قادرة على المنافسة، ظهرت كتب عيار الشعر إسهامًا من النقد في صناعة شعراء عزّ وجودهم غريزيًا! 

تصطدم فكرة النوع الأدبي السابق على الإبداع بمقولة تزعم أن الحرية شرط للإبداع، ولا إبداع في إطار القيود، وهذا الكلام ضعيف متهافت لا يسنده واقع التجربة ولا تاريخها، لأن الإبداع قد تحقق دومًا تحت ضغط القيود، والتحديات العظيمة تستفزّ الطاقات الجبّارة الكامنة، فضلاً عن أن مادة الإبداع الأدبي الخام؛ اللغة، هي بيئة مشحونة بالقيود الطبيعية، بما أن اللغة نظام قَبْلي من القواعد والقوانين الملزمة، ومع ذلك فإن إمكانات السيطرة على القوانين، وإدارة التراكيب، وإعادة تشكيل المألوفات، واشتقاق المفردات، وتطوير الدلالات، غير محدودة، "ولأن الشكل مقيّد فإن الفكرة تنبثق قوية"؛ والقول لبودلير، ينظر: [21]: (ص93)، وكذلك قيود النوع ـ وهي قوانين مؤسِّسة، أو نظام رموز متعارَفة، قابلة للفكّ من الطرفين؛ المرسل والمستقبل ـ هي إرادة للتنظيم المستفاد من خبرة الأعمال العظيمة، تعين على تنظيم الطاقة الأدبية وتوجيهها، وأسهمٌ دالّة إلى قصد السبيل، وغاية القبول، وذروة الإجادة والإبداع، "وكل تنظيم فن" [4]: (ص215). ولكن مزالق التمييز النوعي لا تقف عند حدود تكبيل الإرادة المبدعة فقط، بل إنها تجرّ إلى السقوط في التكرار واستعادة المألوف، والدوران في فلك واحد من القول المعاد المكرور، لا سيما عند من يعتبر الإجادة في الانزياح عن المألوف! لا خلاف في أن الأثر الفني المتحقِّق عن طريق الانزياح عن المألوف عظيم؛ لأنه يؤدي إلى الإدهاش أو العجب، ولكن طرق الإدهاش أو العجب، كما لاحظ نقاد العرب، كثيرة، لا يجوز استبعادها، أو نفيها، ما دامت تحقق الأثر الفني، منها ما يتعلق بالانزياح، ومنها ما يتعلق بالمطابقة، أو هي "شدة ائتلاف في شدة اختلاف" [22]: (ص132)؛ كما يقول الجرجاني، ولا يغني طرف عن طرف، ينظر: [22]: (ص130). وكل ما حقق الإدهاش فقد حوّل الرسالة إلى عمل فني، فإذا كان الإدهاش يأتي كثيرًا من الانزياح والغرابة والإغماض، فإنه يأتي أكثر من مهارة المطابقة، وجودة التمثل النوعي والحضاري والإنساني والسياقي.. ولذلك كان النوع في جوهره طموحًا لتمثل الكلي والمطلق والمتغير، ومطابقتهما كليهما، وطريقة لغوية فذّة لإبراز المتغير المنزاح من خلال المطلق المتكرر. حالة التماسّ أو التواصل مع الكليات؛ الجمالية أو الإنسانية أو الحضارية الخاصّة، أو الأدبية، ومطابقتها من خلال النوع هي مصدر الإدهاش أو اللذة في التجربة النوعية؛ إبداعًا وتلقيًا، ويشرح ويليك ذلك بقوله: "فالنوع يمثل ـ ولنقلها بوضوح ـ جملة من الصنعات الأسلوبية تكون في متناول اليد، قريبة المأخذ للكاتب وسهلة الفهم لدى القارئ" [4]: (ص308)، ومصطلح "أفق التوقّع"، أو "الانتظار"، ينظر: [23]: (ص142)، يقترب من هذا المعنى في بعض مستوياته، إذ إن العمل الأدبي يحقّق هدف الإدهاش من خلال مطابقته لأفق التوقّع، ومضمون التوقع لا يكون فنيًا فقط، بل يكون قيميًا أيضًا، أما الانزياح فلن يُحدِث الصدمة الجمالية من خلال أفق التوقع النوعي إلا إذا اتكأ على خلفية عريضة من المشابهة أو المطابقة، تبرز بها حدة الانزياح، وتتحقق بها الدهشة المطلوبة، وانطلاقًا من هذه الآلية اعتبر باسل حاتم "تعليمات السياق الكبرى"، هي المرحلة الأولى في بناء النصوص وتذوقها، ينظر: [1]: (ص106). وإن قوانين النوع الأدبي تسمح بحدوث الصدمة الفنية عند المتلقي من خلال أفق التوقع النوعي، وما ينطوي عليه من إمكانات المطابقة والانزياح كليهما، ولذلك فإن أي تفريط في هذه القوانين، أو انزياح عنها، إن كان له ما يقتضيه في السياق، يغدو أعظم أثرًا بسببٍ من أفق التوقع، والصدمة الحاصلة نتيجة الإخلال به، الأمر الذي عرفناه في خطبة زياد بن أبي سفيان المشهورة بـ"البتراء"، والأثر العجيب الصادم الذي تركه تخليه عن عرف البسملة في بدايتها، وصدمة كسر العرف النوعي في البتراء تضارع الصدمة التي يحدثها فينا حجب البسملة في مستهلّ سورة "براءة" في كتاب الله عز وجل. "إن الاطراد والتناظر يشكّلان ـ كما يرى بودلير ـ حاجة من الحاجات الأولية للذهن الإنساني"، كما أن المنحنيات ـ "المشوَّهة بلطف" التي تبرز على أرضية هذا الاطراد ـ و"اللامتوقع والفجاءة والذهول" تشكل بدورها "جزءًا جوهريًا" من المفعول الفني"، وهو ما يعرف بـ"التوقع الخائب"، أو "الانتظار المحبَط"، ينظر: [21]: (ص83)، ويروي عن هوبكنس: "إننا لا نبحث في الفن عن تحقيق الوحدة وديمومة القاعدة والمشابهة فحسب، وإنما نبحث كذلك عن الاختلاف والتنوع والتباين"، [21]: (ص87). إذن، جمالية الانزياح تتحقق من خلال شرطين تحملهما قوانين النوع الأدبي: الأول وجود تحدٍ أو عائق يكون تجاوزه إنجازًا؛ لأنه لا يتأتى لغير ذوي المواهب والعبقريات. والثاني وجود هامش من المألوفات تبرز من خلاله حدة الانزياح. وأما الفرار من المطابقة؛ نوعية كانت أو غير نوعية، بحجة التحرر من القيود، والولع بالانزياح المطلق جريًا وراء الإدهاش والتفجير اللغوي، فليس يمنحنا إلا نصوصًا مترهّلة يعيقها ثقلها الانزياحي عن أن تحمل شحنة جمالية وطاقة تأثيرية، بله أن تحقق غرضها الدلالي، وليس في إمكان المبدع أن يتحرر تحررًا كليًا من قيود الأعراف الأدبية والنوعية لأن النوع في جوهره عجينة من عناصر أدبية عامة وخاصة، ولما كان النوع يتخلّق في صيغة نصّ فائق، فإن هذا النص لا يخلو من سلطة النصوص السابقة؛ وجودًا أو عدمًا، وإذا كانت "هناك عصور للاكتشاف، [فهناك] عصور لتطوير الإقليم المفتتح" [24]: (ص38)، وقد وعى هذه الحقيقة أبو تمام أكثر الشعراء العرب جرأة في التجديد، فأوصى تلميذه البحتري بقوله: "وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين: فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه، ترشد إن شاء الله"! [25]: (2/114-115). ولكن إذا كان النوع الأدبي يكتسب هويته ويحقق كينونته في هيئة أعراف شائعة متداولة، فإن الأعراف النوعية تلك لا تكون ـ بناء على التحليل السابق ـ قيدًا يحدّ من إمكانات الإبداع؛ لأن الذات المبدعة هي التي تسيطر على النوع وعلى مكوناته وأدواته، وتملي عليه إرادتها، وتوجّهه إلى غاياتها، بقدرتها على تجسيد إرادتها في نصّ فائق، يقول ويليك: "والكاتب الجيد يمتثل جزئيًا للنوع كما هو موجود، ثم يمدده تمديدًا جزئيًا أيضًا" [4]: (ص308)، وإنما "يكون الإطار قابلاً للنمو بقدر ما هو أساس للثبات" [12]: (ص164)، ولن تستطيع الذات أن تقفز على النوع السائد، ولا أن تدفعه في اتجاه آخر ما لم يوجد التحدي الداخلي أو الخارجي الذي يفرض هذا التحول، وما لم تحاربه بسلاحه نفسه؛ النص الفائق، ويمكن "للأشكال أن تتحطم وتعاد صياغتها" [24]: (ص41)، وللشاعر أن يبحث عن التطوير، فـ"مهمته تجمع كلاً من التجاوب مع التغيير، واستيعابه، والكفاح ضد الإسفاف إلى ما دون المستويات التي تعلمها من الماضي" [24]: (ص41-42)، وهذا هو شرطه في تجديده، ألا يسفّ ولا ينحطّ، وسوف تتهاوى أمام قوة نصّه حينها أعراف النقد، وأعمدة النوع. 

قد يُواجَه التجديد الفردي بصدّ جماعي مؤقت أو نهائي، وإنما العبرة في التجديد النوعي الناجح بالديمومة والاستمرارية والتحول إلى تيار واتجاه ظاهر؛ لأن النوع الأدبي هو ـ بحسب ما قدّمنا ـ منتج جماعي متحقّق بقوة الإجماع، لا اجتهاد فردي يطويه التاريخ، ولا زبد تبدده موجة الأدب العارمة. 

النتائج: 

إن التمايز النوعي هو مظهر تحقق الإرادة الجماعية في الأدب، فهو ضرورة لا يخفف من أهميتها وجود تداخل طبيعي يسمح بتبادل التقنيات الأدبية والفنية من غير أن يؤدي إلى الإسفاف شرطًا، ما دام الكل الأدبي محكومًا بقوانين جمالية واحدة لا يجوز أن ينحط عنها أي نوع أدبي، لخصتها النظرية الأدبية القديمة باسم "البلاغة"، وعرفت في النقد الحديث باسم "الأدبية". وإن النوع الأدبي الخام الذي يجسد الأدب المطلق هو النثر لأنه يختزن إمكانات الأنواع كلها مع اختلاف في الكم لا في النوع، والشعر أكثر الأنواع تقييدًا وانضباطًا وتنظيمًا، وكل كلام بليغ حقق الشرط الجمالي في ذاته وتحرّر من الضوابط عاد إلى النثرية الأدبية. ويسهم الفرد المبدع في تطوير النوع الأدبي من خلال نص فائق ينافس به النص السابق أو يتفوق عليه، ولن يتحول إسهام الفرد إلى ظاهرة نوعية ما لم يحظ باعتراف الجماعة، ومباركة المتلقين، وتبنّي المبدعين. 

المراجع: 

1. عوض يوسف نور، 1994 ـ نظرية النقد الأدبي الحديث. الطبعة الأولى، دار الأمين ـ القاهرة. 

2. شيفير جان ماري، ما الجنس الأدبي؟ تر: غسان السيد، اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق. 

3. طودوروف تزفيطان، 1990 ـ الشعرية. تر: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، الطبعة الثانية، دار توبقال للنشر ـ الدار البيضاء. 

4. ويليك رينيه، أوستن وارين، 1972 ـ نظرية الأدب. تر: محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ـ دمشق. 

5. الغذامي عبد الله، 1998 ـ الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية. الطبعة الرابعة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مصر. 

6. أبو ديب كمال، 1987 ـ في الشعرية. الطبعة الأولى، مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت. 

7. كوهن جان، 1986 ـ بنية اللغة الشعرية. تر: محمد الولي ومحمد العمري، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر ـ الدار البيضاء. 

8. برنار سوزان، قصيدة النثر. تر: زهير مغامس، الطبعة الثانية، الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة. 

9. الجاحظ عثمان بن بحر، 1998 ـ البيان التبيين. تح: عبد السلام هارون، الطبعة السابعة، مكتبة الخانجي ـ القاهرة. 

10. المرزباني أبو عبيد الله محمد بن عمران، 1965 ـ الموشح (مآخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر). تح: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر ـ مصر. 

11. حمودة عبد العزيز، نيسان1998 ـ المرايا المحدبة ـ من البنيوية إلى التفكيك. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت، العدد232. 

12. سويف مصطفى، الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة. الطبعة الرابعة، دار المعارف ـ القاهرة. 

13. ابن خلدون عبد الرحمن، 2001 ـ تاريخ ابن خلدون ـ المقدمة. تح: خليل شحادة، دار الفكر ـ بيروت. 

14. الجمحي أبو سلام، 1952 ـ طبقات فحول الشعراء. تح: محمود محمد شاكر، دار المعارف ـ مصر. 

15. البغدادي عبد القادر بن عمر، 1984 ـ خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب. تح: عبد السلام هارون، الطبعة الثانية، مكتبة الخانجي ـ القاهرة. 

16. فضل صلاح، أغسطس1992 ـ بلاغة الخطاب وعلم النص. مجلة عالم المعرفة ـ الكويت، العدد164. 

17. إليوت ت.س، 1982 ـ فائدة الشعر وفائدة النقد. تر: يوسف نور عوض، الطبعة الأولى، دار القلم ـ بيروت. 

18. العقاد عباس محمود، 1984 ـ ساعات بين الكتب. المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد، (26) الأدب والنقد3، الطبعة الأولى، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت. 

19. تليمة عبد المنعم، 1973 ـ مقدمة في نظرية الأدب. دار الثقافة للطباعة والنشر ـ القاهرة. 

20. ابن رشيق أبو علي الحسن القيرواني، 1955 ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية، المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر. 

21. ياكبسون رومان، 1988 ـ قضايا الشعرية. تر: محمد الولي ومبارك حنون، الطبعة الأولى، دار توبقال ـ الدار البيضاء. 

22. الجرجاني عبد القاهر، 1988 ـ أسرار البلاغة ـ في علم البيان. تعليق: محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت. 

23. مفتاح محمد، 1992 ـ تحليل الخطاب الشعري ـ إستراتيجية التناص. الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء، بيروت. 

24. إليوت ت.س، 1991 ـ في الشعر والشعراء. تر: محمد جديد، الطبعة الأولى، دار كنعان للدراسات والنشر ـ دمشق. 

25. ابن رشيق أبو علي الحسن القيرواني، 1963 ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثالثة، المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر. 

الحواشي:

([1]) ومع ذلك فإن مفهوم التناص لا يقدر وحده أن يفسر ظاهرة التشكل النوعي، لأنه لا يتجاوز حدود النص، ومصادر الذاكرة الأدبية، إلى الإرادة الجماعية الغائبة خلفه، وهي جماع عمليات الإبداع والتلقي، والسلطة العليا في تكوين النوع الأدبي، وتعبر عن إرادة وظيفية قاهرة تفرض نفسها على جيل أو ثقافة ما، وتحققها من خلال النوع الأدبي. هذا فضلاً عمّا علق بمفهوم التناص الغربي من جبرية نحاول ههنا نفيها، وتأكيد مساحة فعالية رحبة للمبدع، في حين يؤكد التناص قهره، وخنقه في إطار تكوين محكم سابق عليه يضعه في مواجهته، ويشعل بينهما نزالاً يجب ألا ينتهي إلا بهزيمة أحد الطرفين. 

([2]) ويعتد كوهن بقوة الإجماع في اختيار نصوص دراسته، وقد اعتبر الإجماع المعيار الموضوعي الأكثر صرامة في مجال القيم. 

([3]) وتتمة الخبر: "قال: إذا أخذت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصرّاف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟". 

([4]) أصل الخبر: "قال عبد الله بن أبي إسحاق للفرزدق: بم رفعت أو مجلف؟ ـ وذلك في قوله: 
وعضُّ زمانٍ يا بن مروان لم يدع من المال إلاّ مســحتًا أو مجلـَّـفُ 
ـ فقال: بما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا". 

COMMENTS

الاسم

الآداب العالمية,1,الإحياء,1,الأدب العربي,1,الأدب العربي القديم,2,الأصالة,2,الانحطاط,2,الأنواع الأدبية,2,التراث,3,الحداثة,4,الحضارة الإسلامية,5,الحضارة الغربية,1,الخلافة العثمانية,2,الشعر العربي الحديث,4,اللغة العربية,1,المنهج الأدب,2,المنهج الحضاري,2,النقد الأدبي,1,النقد العربي,1,النقد العربي الحديث,1,النهضة,3,بحوث محكمة,5,بحوث ودراسات,7,تداخل الأنواع,1,تعليم العربية,1,تعليم العربية بالسليقة,2,تعليم العربية للأطفال,1,دراسات وأبحاث,2,رسائل علمية,2,عوامل الانهيار الحضاري,3,فلسفة الحضارة,3,قوانين الحضارة,2,كتب,3,كتب منشورة,3,مؤتمرات,3,محاضرات ومناهج,4,مقاصد الشريعة,1,مقالات,1,نظرية الأدب,7,وظيفة الأدب,5,
rtl
item
د. بتول أحمد جندية: تخلّق النوع الأدبيّ وتطوره بين إرادة الفرد وسلطة الجماعة د. بتول جندية
تخلّق النوع الأدبيّ وتطوره بين إرادة الفرد وسلطة الجماعة د. بتول جندية
بحث في قضية النوع الأدبي، والقوانين التي تحكم تخلقه وتطوره - بحث محكّم / د. بتول جندية
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEh5URr09VNpK9KvhQYpHO6ozRPdcxUwX0hjpAKRFAoV4iTUAjchDEDo0xzm2L_IjA6hyZYYsiVgeRCrsDCmK4ZmR0C3SE5JstcIRQchuwCCe_neeLflI-WdyXxnlk-nUgr7RqOn0hwyRNyj/s320/%25D8%25AA%25D8%25AE%25D9%2584%25D9%2582+%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2586%25D9%2588%25D8%25B9.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEh5URr09VNpK9KvhQYpHO6ozRPdcxUwX0hjpAKRFAoV4iTUAjchDEDo0xzm2L_IjA6hyZYYsiVgeRCrsDCmK4ZmR0C3SE5JstcIRQchuwCCe_neeLflI-WdyXxnlk-nUgr7RqOn0hwyRNyj/s72-c/%25D8%25AA%25D8%25AE%25D9%2584%25D9%2582+%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2586%25D9%2588%25D8%25B9.jpg
د. بتول أحمد جندية
http://drbjund.blogspot.com/2010/10/blog-post.html
http://drbjund.blogspot.com/
http://drbjund.blogspot.com/
http://drbjund.blogspot.com/2010/10/blog-post.html
true
2808715583222376053
UTF-8
طالع بقية المقالات لا توجد أية مقالات مقالات أخرى تابع القراءة Reply Cancel reply Delete By الرئيسة PAGES POSTS شاهد الجميع موضوعات ننصحك بقراءتها قسم أرشيف بحث كل المنشورات ليس هناك أية مقالات ذات صلة بطلبك ارجع إلى الرئيسة Sunday Monday Tuesday Wednesday Thursday Friday Saturday Sun Mon Tue Wed Thu Fri Sat January February March April May June July August September October November December Jan Feb Mar Apr May Jun Jul Aug Sep Oct Nov Dec just now 1 minute ago $$1$$ minutes ago 1 hour ago $$1$$ hours ago Yesterday $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago more than 5 weeks ago Followers Follow THIS CONTENT IS PREMIUM Please share to unlock Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy