الانحطاط وأزمة الفاعلية ـ تنقيب عن العلل والآثار، د. بتول جندية

الانحطاط وأزمة الفاعلية، بحث محكم في عوامل انحطاط المسلمين وسقوط الخلافة العثمانية، د. بتول جندية

الانحطاط وأزمة الفاعلية ـ تنقيب عن العلل والآثار

طموح هذه الدراسة المتواضع اكتشاف العلل الخفية لانحطاط الأمم والحضارات، وتقصيها في جذورها الخفية التي تنبت في الظلام مع بواكير إنجازات الحضارة، وتؤسّس لنفسها في أصولها، لتتحول مع الزمن، ومن خلال التراكم، واستغلال الضعف المتسرب، إلى سوس ينخر في أسس بنيانها الشامخ، فينقلب الرضا إلى خور، والإنجاز إلى تواكل، والنظام إلى خضوع..
د. بتول جندية بحث محكم، فلسفة الحضارة، الانحطاط، النهضة، الخلافة العثمانية، عوامل السقوط
ولا تنهار إلا تلك الحضارات التي تملك في ذاتها شروط الانهيار، أما التحديات الخارجية فهي مجسات قوة الأمم، تخترقها إن ضعفت، وتمدها قسوتُها بالصلابة اللازمة للنهوض من جديد، إن توافر لها المعادل الداخلي المناسب.
د. بتول أحمد جندية
قسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة حلب
بحث محكم في مجلة بحوث جامعة حلب
ورد البحث للمجلة بتاريخ ـا 31/12/2009
قبل للنشر بتاريخ ـا 31/1/2010
حمل نسخة PDF

المقدمة:

جرت العادة بتبسيط مشكلة انحطاط هذه الأمة، والتماس عللها في العوامل القريبة من انهيارها، وإلقاء اللوم على الدولة العثمانية، وما انتهت إليه من مظاهر ظلم وفساد.. في مقابل هذه الرؤية التبسيطية، ظهرت تحليلات حاولت أن توغل وراء المشكلة إلى جذورها العميقة التي ترجع إلى زمن الغزالي لما انتصر للنقل على العقل وللاتباع على الابتداع، بل ربما أعمق من ذلك لما سلب الأمويون الخلافة وحوّلوها وِرْثة بعد أن كانت شورى.. وواضح أن هذه المواقف تتفاوت في منطلقاتها، فالأول التبسيطي يبحث في العوامل الاجتماعية ويتحرك ببواعث قومية

غالبًا، والثاني مشغول بالفكر وحركته، والثالث ينظر بمنظار سياسي ويهتم لأمور الحكم والدولة، وكلها ـ كما يقال ـ محق فيما يثبت غير محق فيما ينفي. أما هذه الدراسة فإنها تؤثر أن تلم بالمشكلة من منطلق حضاري ينظر إلى الحضارة بوصفها سلسلة متصلة من التجارب والخبرات، تلونت بألوان مختلفة وعصبيات متنوعة وتعاقبت عليها دول متلاحقة حتى أسلمت نفسها إلى القرن العشرين منهكة من رحلة التاريخ الطويلة، وإنما وجب النظر إليها بعين الوحدة لأنها اغتذت من مصدر حضاري واحد، وشكلت دافعتَها فكرةٌ كلية واحدة تفاوتت قوة وضعفًا على مر القرون، وكذلك لكل حضارة فكرة جامعة تمنحها الطاقة للانطلاق والاندفاع. وتنشأ مشكلة الانحطاط في الأساس من خلل في الفاعلية يبدد طاقات الأمة ويكبلها، ويحولها عاجزة لا حول لها ولا قوة، وما ذاك إلا بسبب انقطاع صلة الأمة بفكرتها الكلية ومصدر طاقتها المحركة، أو ضعف هذه الصلة. وسوف نجدّ في هذه الفقرات في طلب العوامل التي حولت الشعوب العربية المسلمة إلى شعوب خاملة، وعطلت فاعليتها التاريخية، وقطعت صلتها بطاقتها المحركة.

الإرهاصات:

كانت الدولة العربية الإسلامية دولة قوية متماسكة دانت لها بالولاء مناطق شاسعة وشعوب متنوعة، وقدمت من خلال صيغتها الدينية السياسية الخاصة نموذجًا ناجحًا لمركزية الحكم المدعومة بشرعية دينية، وهيبة عسكرية، وعهد بالطاعة، ويمين بالبيعة، وإجماع ضمني على أحقية العرب بالرياسة لأسباب دينية أو أدبية. ولكن العنصر العربي الذي دخل طور انحلال مزمن نتيجة الترف والفساد، وتضييع العصبية بالامتزاج بالأعاجم، عجز عن أن يقدم عصبية جديدة تمد الدولة بدم نقي فتي قادر على النهوض بأعباء الأمة الثقيلة، فتحولت الخلافة إلى منصب رمزي كان غطاء مناسبًا للفرقاء المتصارعين والدويلات المتناحرة التي فتّتَت الأمة وأطمعت بها الأعداء، لولا أن نهضت عصبيات مسلمة من غير العرب بواجب الذود عن الأمة المتشرذمة، لتكمل الدورة الحضارية وتمد في عمر الأمة وتمنحها من خصوصيتها وذاتيتها، وترد عنها خطر الاجتياح والفناء، وقد هُددت في عقر دارها على يد الصليبيين والمغول. استطاعت الهجمات الصليبية أن تستنزف طاقات الأمة الإسلامية ومواردها على مدى قرنين من الزمن، حتى قدر المماليك على طرد آخر فلولها. بيد أن الاجتياح المغولي ـ على قصر مدته([1])، وعلى الرغم من احتواء الحضارة الإسلامية للمغول وانتصارها عليهم ثقافيًا ـ كان هو المنعطف الفاصل المودي إلى انحطاط الحضارة الإسلامية([2])، ليس لأنه استهدف مظاهر الترف المفسد، وآثار الأبهة المطغية، ولا لأنه أباد إنجازات السنين المتراكمة التي حملت النفوس الكسولة، ومنحتها سيماء التفوق والتقدم، ومباهج العظمة([3])، فربما كان في هذا الدواء، ولكن لأن جائحة المغول لن ترضى بأقل الخسائر، وتأبى إلا أن تجمع على المسلمين عجزًا روحيًا فوق العجز المادي الذي أنزلته بهم، ويبدو أنهما عجزان مفض كل منهما إلى الآخر، وقد تمثل العجز الروحي في إعاقتين خطيرتين؛ الأولى إحساس طاغ بالذل سرى في الناس سريان رعب المغول في نفوسهم، علمهم الخور والكفر بالقدرات، وحقَنَ اليأسَ العتيد في النفوس التي رضيت أن تستكين، فسلب منها إرادتها وقدرتها على مقاومة التحديات المنهِكة، لتتحول إلى زبد عاجز ينقاد بالتيار يجرفه أنى شاء، لقد استسلمت للمصير([4])! والإعاقة الثانية هي الدخول في حالة انقطاع حضاري وتاريخي مفاجئ نتج عن تدمير البنى المؤسِّسة؛ العلمية والعمرانية والاقتصادية، والتصفية الجسدية لرجال العلم أو تشتيتهم، والمذابح الجماعية لعامة الأمة([5]). وتفنى المعرفة بموت رجالها أو ضياع مصادرها وفقدان وسائلها، وتاريخ الأمة هو معرفتها، ومعرفتها هي فكرتها التي قامت عليها، وطاقتها التي أطلقتها، ومحركها للفعل والتأثير، فإذا انقطعت صلتها بها خسرت طاقتها وتقلصت فاعليتها، وفقدت بوصلتها الموجِّهة، وتحولت مُثُلها إلى مفاهيم غائمة مشوهة لا تحرِّك إلا إلى الخمول ولا تنتج إلا الخراب، ومع تكرار المحاولات والفشل، تغبن الذات قدرها وتجهل نفسها وتقع في يأس معجِز، وذل مكين، وإنما تُستمد العزة من ماض تليد أو حاضر فريد، ومع نكبة المغول خسرت الأمة الاثنين([6])! ولكن الذل سيظل أهون الإعاقتين؛ لأن الأمة ستحرر نفسها منه، وتتطبب من أعراضه إلى حين من الزمن، أما الانقطاع الحضاري فهو الداء العياء الذي سينتفخ بكرّ الأيام([7]) ويصير سرطانًا يتغلغل في مناحي الحياة كلها، ويشد الأمة إلى قاع الانحطاط.

توالد المتناقضات:

في مثل هذه الأجواء سيكون ظهور الدولة العثمانية نجدة للعالم الإسلامي، ورفضة حياة للحضارة المتهالكة([8])، فليس ما قدمه العثمانيون دولة قوية متماسكة، وجيشًا منتصرًا، وخلافة محترمة ترهب الأعداء وتزع الفرقاء، ونظامًا إداريًا محكمًا، وقانونًا موقّرًا يلزم الجميع فحسب، بل منحوا الحضارة الإسلامية دورةَ حياةٍ داخليةً داعمةً([9]) مشحونة بطاقة شابة، وعصبيةً بكرًا استطاعت أن تمد في حياة الأمة قرونًا إلى الأمام. كان الذل أول ما عالجته الدولة الفتية، لا نقول عن طريق إقرار العدل ورفع سلطة القانون، وإنما بالدرجة الأولى عن طريق توليد هذا الشعور بالفخر؛ الفخر بالانتماء إلى دولة قوية متقدمة قادرة على تأمين حدودها، وإرهاب أعدائها، والتفوق على منافسيها، مما يعيد الإحساس المفقود بالأمن والثقة والعزة واحترام الذات. وعلى الرغم من أن مشكلة الانقطاع التاريخي تفاقمت، فإن العهد العثماني كان ذلك الحاضر الفريد الذي أعاد ربط الأمة بفكرتها، ووصلها بمصدر طاقتها، ومحدد هويتها، ورسّخ ثقتها بها ويقينها بصدقيتها، فالدولة العثمانية القوية المتفوقة قدمت الفكرة الإسلامية في إطار جليل من القوة والهيبة والتقدم، والتزام سلاطين العثمانيين الأوائل بالشعارات والقيم التي رفعوها أحكم ربط المثال بالواقع، وكذلك هي الفكرة عادة، تستعيد صدقيتها وثبوتها وترتفع درجة الإيقان بها حين تقدم تقديمًا حسنًا مشفوعًا بالقوة والانتصار والتفوق، وتعرض عرضًا ماديًا في شخوص تكون مثالاً للعطاء والتضحية، فالشعوب تلحق الأفكار المتنصرة عادة. لقد شُحنت الأمة بطاقة إيجابية متوقدة أعادت إليها كثيرًا من فاعليتها وقدرتها على التأثير في المحيط التاريخي، وبتلك الطاقة حشد العثمانيون الأمة في مشروع نهوض قام على أساس إحياء فريضة الجهاد المعطَّلة([10])، وحققوا الفكرة الإسلامية في بعض إمكاناتها؛ لاسيما العسكرية والإدارية. وقد رحبت الأمة بالخلافة الجديدة وتسابقت الإمارات العربية إلى تقديم طلبات الالتحاق بها، وقد حاز العثمانيون الشرعية المطلقة بتنازل آخر خليفة عباسي عن منصب الخلافة لهم، وإقرار أشراف الحجاز بسلطتهم المعنوية والروحية على الأماكن المقدسة([11]).

بيد أن دولة قوية لا تكفي لمعالجة استطالات المطب الحضاري الذي كانت تمر به الأمة، بل إن تركة الانحطاط الثقيلة ستسغل طاقات العثمانيين وسجاياهم ذاتها لتمكّن لنفسها وتمدّ باعها في صمت، وخصائص الشعب التركي المتميزة التي قامت عليها دولتهم القوية، ستلتحم بالواقع الآخذ في الانهيار وتتحول إلى عوامل سلبية، لا سيما في مرحلة الضعف حيث فُرِّغت فيها هذه الخصائص من معناها ومحتواها الإيجابي.

كان العثمانيون من أكثر العصبيات المسلمة تبجيلاً للإسلام والتزامًا به، وشاؤوا أن يكون الإسلام هوية لهم وعلامة عليهم قبل هويتهم العرقية، حتى اشتهروا به وصارت النسبة إلى الترك نسبة إلى الإسلام نفسه([12])، وقد تضافرت خاصية تبجيل الإسلام مع التزام الأتراك الصارم بالآداب الاجتماعية واحترام أصحاب الرأي والشأن، وكان من نتيجة اعتدادهم بالهوية الإسلامية أن قدروا على استيعاب الخليط المعقد من الجنسيات المسلمة وغير المسلمة، وضمنوا ولاءها لهم، واستقرار دولتهم، وذلك أعطى الإسلام دفعًا قويًا بدوره. ولكن اتحاد تبجيل الإسلام بتقديس العلماء أفرز ظاهرة فريدة في التاريخ الإسلامي، تمثلت في امتلاك علماء الدين سلطة مادية موازية لسلطة رجال الدولة بل متفوقة ومهيمنة عليها في أكثر الأحيان، ومع منصب "شيخ الإسلام" عرفت الدولة الإسلامية صيغة دينية في الحكم غير معهودة([13]) حرصت أن تضبط القوة بالقيم، وتقيد سلطة الحاكم بالدين. ولكن ضعف الخلفاء في المراحل المتأخرة، والفساد العام الذي تفشى في طبقة العلماء نفسها، حوّل المنصب الديني إلى بؤرة فساد وتكسب، والخلافة إلى ألعوبة في يد الأقوياء تباع وتشرى، وترك الأمة من دون قدوة أو مثل أعلى تحتذيه، وجردها من ثقتها بمرجعيتها الروحية ومصلحيها، وجعل استجابتها لهم في مشاريع الإصلاح ضعيفة أو محدودة أو معدومة، لا سيما أن فسادهم كان يمس عامة الأمة في بعض الأحيان([14])، وبذلك فقدت الأمة ركنًا أساسيًا كانت تعتمد عليه في تجديدها وتصحيح مسارها.

منذ عهد أبي حامد الغزالي، شاع "التقليد" منهجًا للحياة والفكر([15])، وسار جنبًا إلى جنب مع التصوف الآخذ في التفشي في المجتمعات الإسلامية، وكانا، على الزمن، يتحولان إلى صور منحرفة تحمل كل ما يقود إلى الجمود في الفكر، والانحراف في العقيدة، والعطالة في الفعالية، فلما تزاوجا؛ أي التقليد والتصوف، بصفتي: تقديس الرجال، وإجلال الدين، العثمانيتين صار التقليد نبذًا للأصول، واتباعًا للرجال، وتواكلاً عليهم، وتعصبًا لهم، وتكميمًا للعقول، وانغلاقًا في الفكر، الأمر الذي انعكس على الحياة العلمية؛ عقمًا، وجمودًا شاملين([16]). أما التصوف فإنه الذي سيعمق أثر هذه التقاليد، ويمد باعها في الحياة، فالتقديس والتقليد سيتجسدان في طقوس حياتية ومعتقدات شعبية تحرر النفس من مسؤولياتها تجاه الواقع والتاريخ، كمبدأ الشفاعة([17])، والمهدي المنتظر، والتماس المدد من السادة والأولياء. وعقيدة القضاء والقدر، التي أمدت النفس المسلمة بطاقة جبارة في مواجهة التحديات، تتعرض لتحريف حاد يحولها إلى إيمان بالجبر، وتواكل على القضاء، وتكريس للسلبية والعجز، وسادت بناء على ذلك مفاهيم تذم العمل والسعي، وتزين التواكل وتبرر البطالة والكسل([18])، وطبيعي أن تتكامل هذه الصيغة العرجاء العاجزة مع ترويج الصوفية لخرافات مهمتها أن تغذي تطلعات الناس وأحلامهم، وتستجيب لآمالهم، وتسكن آلامهم، وتجعلهم يتعلقون بالمعجزات، وينتظرون الكرامات، هربًا من واقعهم، وعجزًا عن تغييره، وتخليًا عن المسؤولية تجاهه([19]). ولشدة تقديس العثمانيين للأولياء، وحبهم للإسلام، رأوا أن يرفعوا التصوف مذهبًا رسميًا عامًا في البلاد، فرسخت أقدامه، وراجت مبادئه، وانتشرت بين العامة والخاصة معتقداته([20])، وصار ركنًا أساسيًا في تعليم الانكشارية وتدريبهم([21])، فتعلمت النفس العثمانية أن تستسلم للأخطار، وتطأطئ رأسها للمحن، وخسرت مقاومتها العنيدة للتحديات والمعيقات. لم يدرك العثمانيون أن صيغة التصوف المنحرفة تلك هي تبديد إرادي لطاقة الإسلام الحركية، وانحراف بمبادئه إلى منظومة مفاهيم معطِّلة، بعد أن ظل الإسلام قرونًا متحدًا بالحياة، وناسجًا معالمها ببراعة وسيطرة!

يصف توينبي العثمانيين بأنهم مروضو الرجال([22])، وأن الغرب قد استعار منهم سلاحهم البتار الهائل ألا وهو النظام الصارم([23])، وقد تهيأ لهم ذلك بفضل اجتماع عادة الاحترام بطبع الجلد والحزم والصلابة، فاستطاعوا أن يبنوا نظامًا إداريًا محكمًا، ويفرضوا سلطان القانون على الرعايا، ويوجبوا احترامه بينهم. وقد تمثلت إنجازاتهم في هذا المضمار في البنية الإدارية الهرمية للدولة([24])، وفي النمط المنظم للجيش العثماني الذي كانت فرق الانكشارية خير مثال عليه([25])، وكان لهم من وراء ذلك أن يبنوا تلك الدولة القوية ممتدة الأطراف، ويفرضوا هيبتهم وسلطانهم على شعوب زمانهم. ولكن.. دائمًا للقيمة وجهان؛ سلب وإيجاب، ودأبنا أن نرصدهما معًا ونكشف عنهما كليهما. نقول: إن احترام النظام وصرامته طبع الدولة العثماينة بطابع عسكري وصلابة إدارية، انقلبا مع الضعف إلى سلطة استبدادية قمعية، وتحول النظام الإداري إلى بيروقراطية متكلسة وهرمية صارمة، فصار ذلك كله علة لتفشي الفساد والظلم في الدولة، وسمح بتدخل العسكر في شؤونها.

إذن فقد اجتمعت في الدولة العثمانية أسباب الترف وشروط الذل، وكلاهما محبط للطموح ومقعد للهمة، أولهما بما يزرع في النفس من الرضا والقناعة، وثانيهما بما يعودها على التطامن للمعيقات والاستسلام للتحديات، وكان من التقائهما فساد الخاصة والعامة. وفي الوقت الذي علّمت فيه الدولة العثمانية أوروبة العدالة([26])، أعاد إلى نفوس رعاياها اجتماع الظلم بالاستبداد والخضوع لسلطان القانون([27]) سيرة الذل المنطوية التي بدأت مع المغول، وعُطلت المصالح حتى ملّ الناس العمل وأنفوا من بذل الجهد، وتلقفت النفوس العاجزة كل ذلك بالرضا والتسليم، وباليأس والتبرير، وبالعجز عن التغيير، فليس في الإمكان أبدع مما كان! وقبل أن يركن جيش الانكشارية إلى الترف ويحوّل قوته إلى الداخل، أسهم، باضطلاعه بمهام الجهاد والدفاع والأمن، في تعطيل الأمة، وإقالتها من مسؤوليتها التاريخية، وتحريرها من واجباتها العليا تجاه الفكرة وتجاه الجماعة، وعزلها عن الحياة العامة وأمور الحكم والدولة، وقوّى فيها النوازع الفردية، وقعد بهمتها إلى الانشغال بشؤون المعيشة اليومية وتحقيق الطموحات الشخصية، وهذا هو مصير الشعوب التي تألف حياة السلم، وتأنف من مواجهة الأخطار([28])، وتضعف بينها الروابط. فلما قررت الدولة تصفية الانكشارية وإصلاح الجيش في مطلع القرن التاسع عشر، تبدى هذا الخلل عيانًا، وأطلت تراكمات القرون الماضية في ظاهرة تهرب شباب الولايات من التجنيد الإجباري بكل الحيل الممكنة([29]). ولم يكن تحمّل الجيش المحترف أعباء الجهاد والأمن هو العلة الوحيدة لعزلة الأمة، فقد تآزرت عوامل أخرى لعل أهمها: ضعف اللغة العربية؛ لغةً حضارية جامعة تصل وتؤلِّف بين الجنسيات المتباينة التي ضمتها الحضارة الإسلامية، لا سيما مع انتشار الجهل والأمية. وكذلك أدت صعوبات الاتصال بين أطراف الدولة العثمانية المترامية لا إلى مشكلات إدارية فحسب، ولكن إلى تكريس عزلة الأمة عن الشأن العام لعدم اطلاعها على أخبار الدولة وخططها وأهدافها وحروبها وحال جيوشها، وصعوبة معرفتها بأحوال العالم الإسلامي والأخطار المحيقة به والمحن التي يعيشها في وقتها، وهذا أعاق بدوره إمكانات التدخل والمساندة، وأضعف الحماس والتعاطف، وعطّل في مجموعه الوعي الإسلامي المشترك، ورقّق وحدة الحال بين الشعوب المسلمة. وقد تغير هذا الوضع مع ظهور وسائل الاتصال الحديثة وسبل المواصلات السريعة التي كفلت التدفق المتبادل للمعلومات وخلقت رأيًا عربيًا وإسلاميًا موحدًا، وقد أعان انتشار التعليم والنهضة العلمية على حلّ معضلة اللغة نوعًا ما.

وتغلغلت مشكلة العطالة وضعف الفعالية في أركان الحياة النفسية والاجتماعية والمعرفية والسياسية للأمة، وكان أبرز مظاهرها التدهوران العلمي والاقتصادي وانعكاسهما على القوة العسكرية. وإنما يقوم الاقتصاد على قوة العمل، فكيف السبيل إليه في أمة تعلمت الكسل والخمول، وفضلت القناعة والرضوخ، وفقدت مثيرات الطموح أو أعرضت عنها؛ "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة"([30])، وتآلفت مع الجهل والخرافة، وأيقنت بعبثية العلم([31])، وفضلت راحة التقليد على جهد الإبداع والاجتهاد، ورفعت لواء الرفض أمام كل جديد؟! كما سادت فيها أخلاق اللامبالاة والنفعية وغلب عليها النازع الفردي والانشغال بكل ما هو تافه وسطحي([32])، وغشيها الفساد والغش، وضُيِّعت الحقوق، وعُطِّلت المصالح([33])، واستقرّ اليأس في أعماقها، فضعف اقتصادها، وتواضع إنتاجها، وتأخرت معارفها، وهزمت جيوشها، حتى سبقها أعداؤها وتفوقوا عليها في الميادين كلها.
الأمم العظيمة تحتمل الهزائم:

ولكن.. لم يكن لهذه الأمة أن تفنى، فـ"الأمم العظيمة تحتمل الهزائم"([34])، وتزيدها الضغوط والتحديات حصانة، وتستفز ممانعتها الداخلية، وحري بنا أن نتلمس مواطن القوة في هذه الأمة، ونبحث أين يكمن احتياطي فعاليتها الذي سيغذيها بوقود الكفاح في مواجهة التحديات المصيرية؟! نقول في إيجاز.. إنه على الرغم من أن عوامل الانحطاط السابقة كلها أضعفت سلطة الفكرة الإسلامية تاريخيًا وعمرانيًا، فإنها؛ كفكرة حضارية مؤسِّسة، ظلت على الدوام ذات سلطان روحي قوي على النفوس وحضور اجتماعي حاسم. لقد اتحدت الفكرة بالذات؛ الفردية والجماعية، وأي تهديد لأحد الطرفين هو تهديد للآخر واستفزاز له، سواء كان للفكرة أو للذات، واتحاد الفكرة بالذات وبالمجتمع، لا بالحياة والمصلحة، جعلها المعادل المثالي المكافئ لتحديات الوجود المصيرية، وعاملَ التوحيد والتكتل في وجه الأخطار. ولكن المشكلة أن هذه الإمكانات ضمن الشروط التي نصفها تظل كامنة ساكنة، وقوى سلبية معطلة، لا يحركها إلا الخطر أو عوامل الاستفزاز، لتعود مع زوالها إلى سكونيتها من جديد([35]). وفي مرحلة الانحطاط تجسدت قوة الإسلام الكامنة تلك في ظاهرتين واضحتين: مبدأ الجهاد، وتماسك المجتمع الداخلي.

إن الضعف والانحطاط اللذين رزحت تحتهما الأمة لم يعيقا الفكرة الإسلامية أن تمدها بطاقة دفاعية جبارة، ودوافع تضحية مدهشة، لمواجهة الأخطار الخارجية، لا سيما إن كان مصدرها عدوًا مناقضًا في ماهية الفكرة نفهسا، وتحت لواء الجهاد، وبإيمان راسخ بالقضاء والقدر، انطلقت نجدات من أنحاء العالم الإسلامي إلى مصر لمساندتها في صد الحملة الفرنسية([36])، وواجب الجهاد نفسه هو الذي حرك الشعوب المسلمة من بعد في ثوراتها ضد المستعمر الأجنبي في مختلف البقاع العربية والإسلامية. لقد تعلم المسلمون كيف يموتون لأجل الإسلام ونسوا كيف يعيشون به، وما يلبث الخطر أن يحركهم ويشعلهم بالطاقة، حتى يعودوا عاجزين أمام تحدي العمران والبناء، ويردوا فائض الطاقة ضد أنفسهم، فعاليتهم آنية يوقدها الحماس، ويخمدها برود العقل ومَرّ الزمان، ولذلك نجحت الشعوب العربية في مقاومة المحتل الأجنبي وكسبت حريتها واستقلالها، ولكنها فشلت من بعد ذلك في معركة البناء ولاكت أخطاءها وما زالت..

وإذا لم يكن الواقع السياسي مبشرًا، ولم تمتلك الدولة العثمانية عوامل التماسك الداخلي، وعانت من انشقاقات وثورات وجيوب انفصالية، وإذا كانت الفكرة الجامعة قد ضعفت سلطتها في الحياة، وغلب كل ما يشجع على الفردية والفرقة، فقد فرضت الفكرة الإسلامية نظامًا اجتماعيًا محكمًا، وامتلكت الأمة تقاليد وأعرافًا ساندت الروح الجماعية المنسحبة، وضمنت بصرامتها الاحتفاظ بتنظيمات جماعية داخلية صلبة، ذات زعامات محلية موقرة، أسهمت في إدارة الصراع، وتحقيق التوازنات، وتحمّل مهام الدفاع؛ كالرابطة القبلية، والرابطة الدينية، والرابطة الحرفية، ورابطة الأحياء، والرابطة الأسرية المتينة. داخل هذه التنظيمات كان التماسك قويًا والتعاون على أشده والولاء خالصًا للجماعة، أما خارجها فشكلت هذه التنظيمات بؤر صراع وتوتر دائمين([37]). وضمن التشكيل الهرمي والسلطوي للمجتمع والقيم، لم تخلُ الأمة من قادة وزعماء ومصلحين ومتنفذين أصحاب ضمائر حية، تعلمت الأمة أن تحترمهم وتتحرك بتوجيههم وتلتجئ إليهم في الضائقات([38]).

وحسبُ الأمة أن فطرتها لم تتشوه تشوهًا كاملاً، وغريزة الانتصار للحق لم تمت في النفوس التي ألفت الذل، وقد عبّرت انتفاضاتها على الظلم إن جار، وثوراتها على الذل إن جاوز الحد([39])، عن نبضها الحي وإبائها المستكنّ للضيم، وحسبها أن طاقة تحملها التي ضاعفتها المحن والآلام لها حدود، تلك الطاقة التي هي أيضًا مكسب ثمين من مكاسب عهود الانحطاط، تمنح الأمة التي أفلست مواردها المادية، وعاندها واقعها، وعادتها بيئتها، رأسَ مال ذاتيًا يستقي من معين مأزق الانحطاط ومن دم المحن والآلام، ويمد النفس بالصلابة والصبر والقدرة على مجابهة الصعاب، بشرط أن يتوافر معادل يخلق الدافع للمقاومة، ويوجه طاقة الجلد تلك للسيطرة على التحديات بدل الرضوخ لها والاستسلام لضغوطها. ولعل منهج التقليد، بهذه الرؤية، أثمن تركة لمرحلة الانحطاط، فقدرته على تحويل القيم إلى تقاليد متكلسة منحها الفرصة للبقاء، وأسهم بذلك في حماية الحضارة من الانحلال الكامل، والذوبان في المجرى التاريخي الهادر، وتضييع هويتها المتفردة، فكان كما الشرنقة التي تصد عوامل البيئة العادية عن الكائن الضعيف المرتجف داخلها، أو كالسبات الشتوي الذي يهيئ المخلوق الذي لا يطيق قسوة الطبيعة لفصل تتفجر فيه الحياة من جديد، وكذلك كان..

الخاتمة:

يُدرس التاريخ استخلاصًا للعبر، فما هو إلا دورات كرّارة ثابتة الحركة، والمتغيرُ الإنسان. وإذا كانت هذه الأمة قد شكَت، عبر رحلة تاريخها الطويلة، من أزمة فعالية لها أسبابها الموضوعية والنفسية، فإنها، بعد قرن كامل من الكفاح لاطّراح أغلال الانحطاط عن كاهلها، حققت نتيجتين متعارضتين: فرط فعالية فكرية تصل حدّ الاستطارة، وانشطار الثوابت، وتضييع الهوية. وقصورًا حادًا في الفعالية العملية أعاق سيطرة الإنسان العربي على بيئته وواقعه. وقد قيل: "إذا أراد الله بقوم شرًا ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل"، وقالت العرب: "لم يدرك الأوّلُ الشرفَ إلا بالفعل". وإن اختلال توازن الفعاليات الحضارية هو كخمودها سواء بسواء، ولا تنهض الحضارة إلا على حالة انسجام تام وتوازن دقيق بين قوى الأمة، ينظم إمكاناتها في اتجاه واحد، وهدف واحد، وضابط الإيقاع دائمًا هو الفكرة الحضارية؛ أيًا كانت، وقيم الأمة الروحية، عليها تجتمع الأمة، وبقوتها يخلق الطموح، ولأجلها يولد الدافع للعمل، لا سيما إن اتحدت بالمصالح، وأشبعت الحاجات الضرورية، والناس بين مثالي يتحرك بالقيم، وواقعي يتحرك بالمصلحة، ولا تقوم حضارة إلا على قوة الطرفين معًا.

المصادر:

1- ديورانت ول، 1988 ـ قصة الحضارة. دار الجيل ـ بيروت، تونس.
2- بوكانن باتريك، 2005 ـ موت الغرب. تر: محمود محمود التوبة، مكتبة العبيكان ـ الرياض.
3- توينبي أرنولد، 1960 ـ مختصر دراسة للتاريخ. تر: فؤاد محمد شبل، الطبعة الأولى، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة.
4- رؤوف وفيق، 2005 ـ إشكاليات النهوض العربي من التردي إلى التحدي، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت.
5- ابن الأثير الجزري أبو الحسن علي بن أبي الكرم، 1987 ـ الكامل في التاريخ. تح: أبي الفداء عبد الله القاضي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
6- المراكشي محيي الدين بن علي التميمي، 1881 ـ المعجب في تلخيص أخبار المغرب. تح: ر. دوزي، مطبعة بريل ـ ليدن.
7- النجار عبد المجيد، 1995 ـ تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت. المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ فرجينيا.
8- الحريري محمد عيسى، 1987 ـ تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس في العصر المريني. الطبعة الثانية، دار القلم ـ الكويت.
9- ليفين ز. ل، 1978 ـ الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث (في لبنان وسوريا ومصر). تر: بشير السباعي، الطبعة الأولى، دار ابن خلدون ـ بيروت.
10- زيدان جرجي، تاريخ آداب اللغة العربية. دار الهلال ـ القاهرة.
11- ياغي إسماعيل أحمد، 1995 ـ الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث. مكتبة العبيكان.
12- الوردي علي، 1971 ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. مطبعة الإرشاد ـ بغداد.
13- العيدروس محمد حسن، 1992 ـ الحياة الإدارية في سنجق الإحساء العثماني. الطبعة الأولى، دار المتنبي للطباعة والنشر ـ أبو ظبي.
14- الشناوي عبد العزيز، 1971 ـ صور من دور الأزهر في مقاومة الاحتلال الفرنسي لمصر في أواخر القرن الثامن عشر. مطبعة دار الكتب ـ مصر.
15- ضيف شوقي، الأدب العربي المعاصر في مصر. الطبعة العاشرة، دار المعارف ـ مصر.
16- حسين محمد محمد، 1954 ـ الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر. المطبعة النموذجية ـ مصر.
17- شمتز باول، الإسلام قوة الغد العالمية. تر: محمد شامة، مكتبة وهبة ـ القاهرة.
18- بركات حليم، 2000 ـ المجتمع العربي في القرن العشرين. الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت.
19- أوغلي عائشة عثمان، 1991 ـ والدي السلطان عبد الحميد الثاني. تر: صالح سعداوي صالح، الطبعة الأولى، دار البشير ـ عمان.
20- فريد محمد، 1981 ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية. تح: إحسان حقي، الطبعة الأولى، دار النفائس ـ بيروت.
21- ابن خلدون عبد الرحمن، 2001 ـ تاريخ ابن خلدون، المقدمة. تح: خليل شحادة، دار الفكر ـ بيروت.
22- نعيسة يوسف جميل، 1986 ـ مجتمع مدينة دمشق. الطبعة الأولى، دار طلاس ـ دمشق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

([1]) "أما المغول فقد أقبلوا وارتدوا في أربعين عامًا لا أكثر؛ ولم يأتوا ليفتحوا ويقيموا، بل جاؤوا ليقتلوا، وينهبوا ويحملوا ما يسلبون إلى منغوليا. ولما ارتد تيار فتوحهم الدموي خلّف وراءه اقتصادًا مضطربًا، وقنوات للري مطمورة، ومدارس ودورًا للكتب رمادًا تذروه الرياح، وحكومات منقسمة على نفسها، معدمة، ضعيفة، لا تقوى على حكم البلاد، وسكانًا هلك نصفهم، وتحطمت نفوسهم.."، [1]: 13/380-381. إنه هلاك مادي ومعنوي، وهلاك السكان المادي عامل قوي في انهيار الأمم، ولذلك فإن أول أربعة عوامل منذرة بموت الغرب عند بوكانن: "سكان يموتون"، [2]: 427. وبالخلاف، تكون القوة البشرية طاقة كامنة لأي مشروع نهوض، وأساسًا شرطيًا لأي تفوق، وقد لاحظ ديورانت أن العامل البشري كان من أهم عوامل نهضة فرنسة لويس الرابع عشر. ينظر: [1]: 31/7-8. مما يعني أن الأمة العربية الولاّدة تقف اليوم على خزّان للطاقة يخسره الغرب، ولا بد أن يستثمر!

([2]) ويؤكد توينبي أن الغزو المغولي للعراق عام 1258 هو الضربة القاضية التي وُجّهت للمجتمع السوري، ينظر: [3]: 1/ 430. ويهون بعض الدارسين من دور المغول في نكبة الأمة الإسلامية وانحطاطها متعللين بأن التخريب اقتصر على العراق، وأن المغول بدؤوا عهدًا جديدًا من الازدهار، وإن كان باللغة الفارسية!! ينظر: [4]: 144. ولعل وفيق رؤوف لم يرد السقوط فيما أسماه "تبرئة الذات "القومية" من معايبها.. ما يؤدي إلى إسقاط النقائص على الغير، ما يوفر على النفس مراجعة النقد الذاتي"، [4]: 155. وهو محق في الحرص على تفادي هذا المزلق، لولا أننا نقول إن الكوارث الخارجية تحطم الحضارات التي تتوافر لها شروط الانهيار أساسًا، ثم إن بغداد كانت حاضرة الخلافة وقلبها النابض، وسوف ينعكس سقوطها على الولايات كلها، ولا يخفى أن اتخاذ الفارسية لغة للنشاط الثقافي مكرس للقطيعة الحضارية التي سوف نتكلم عليها.

([3]) كانت الأمة تملك قابلية الانكسار في ذاتها قبل الغزو، فقد غرقت في ترف مفسد بدد طاقاتها المادية والمعنوية، فقد "..اجتمع الانغماس الأبيقوري في الملذات، والهزال الجسمي والعقلي، وخور العزيمة والعجز الحربي، والانقسام الديني والالتجاء إلى المراسم الغامضة الخفية، والفساد السياسي والفوضى الشاملة، اجتمعت هذه العوامـل كلها وائتلفـت لتحطيـم كـل شـيء في الـدولة قبل الغزو الخارجي... لقد كان هذا كله ـ لا تبدل المناخ، هو الذي بدل آسية الغربية من زعامتها على العالم فقرًا مدقعًا، وخرابًا شاملاً... [و] ما تعانية في الوقت الحاضر من فقر، ومرض، وركود"، [1]: 13/381. ولا تسقط أمة إلا إذا اجتمع عليها ترف يُعجِزُ الخاصّة، ويسلبها القدرة على الكفاح، ويغمرها بالرضا الذي يمتص الطموح للريادة، ونكبات تقعد العامة، وتسلمها للذل، وتجردها من إرادة البقاء الفطرية.

([4]) يروي ابن الأثير في الكامل: كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!! وقال أيضًا: "ولقد بلغني أن إنسانًا منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتريُّ أحضر سيفًا فقتله به"!!، [5]: 10/494. قد تشتمل هذه الروايات على شيء غير قليل من المبالغة، ولكن دموية المغول التي طارت أخبارها، جعلت الرعب هو الطابور الخامس في المسلمين، وإذا كان الترف يحطم القدرة على البقاء، فإن الذل يسلب إرادة البقاء ذاتها.

([5]) ينظر: [1]: 26/28.

([6]) أما بلاد المغرب التي كانت بعيدة عن خط التوسع المغولي، فطبيعي أن تنعكس عليها آثار الهجمة المغولية على المشرق الإسلامي سلبًا، لأن المشرق، كما هو معلوم، كان هو مركز الإشعاع الثقافي، ولكن للمغرب نكبته الخاصة، نقصد بها سقوط الأندلس؛ العمق الإستراتيجي للمغرب، فصار من بعدها مطمعًا لهجمات إسبانية وبرتغالية لا تهدأ، ثم إن شروط الانقطاع الحضاري كانت تتحقق فيه على مهل، فقد منح سلاطين المرابطين الفقهاء سلطات واسعة حوّلت كثيرًا منهم إلى طبقة متكسبة فاسدة أفسدت الدين، وتأسست قطيعة معرفية مع مصادر الدين الإسلامي المرجعية عطلت الفكر وأفقرت الروح، يقول المراكشي في المعجب: "... حتى نُسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير ذلك الزمان يعتني بها كل الاعتناء"، [6]: 123. وينظر: [7]: 48، 51. وقد تكفلت المجاعات والأوبئة بحصد السكان وكسر مقاومتهم، وإضعاف اقتصاد البلاد، وتعطيل مرافق الحياة. ينظر: [8]: 181-182.

([7]) في القرن التاسع عشر كتب بازيلي عن حالة العلم في سورية قائلاً: "لا يتسنى لأحد الوقوف على آثار الأدب القديمة، ولا يتذكرها أحد. ويمكن القول إنها معدومة في سوريا". [9]: 50، وأكد فولني أنه "مع أن مكتبات مصر كانت الأكثر ثراء فلم تكن تعرف هي الأخرى تنوعًا كبيرًا في الكتب"، [9]: 8. ولكن ذلك لا يمنع من أن بعض هذا التراث ظل محفوظًا في مكتبات الكليات والمدارس الدينية، وفي المكتبات الخاصة لبعض الأسر العريقة، ولكن الوصول إليها كان متعذرًا، ينظر: [10]: 4/126 وما بعد.

([8]) لسنا في هذه الصفحات نجمّل تاريخ الدولة العثمانية، فأياديها وسجاياها مشهورة يعرفها القاصي والداني، ويشهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، ولكن هذا كله لا يلغي أن نهاية الخلافة الإسلامية، وفاجعة الأمة بها، كانت على يد هذه الدولة، فقد أسهمت في انهيارها بقليل أو كثير سنعرض له في حينه، على أن يرافقنا على طول العرض ضابط لازم يميز بين فترتي ازدهار الدولة العثمانية وانحطاطها، وانعكاس الأحداث وعوامل الانحطاط عليهما، أو تدخلهما في إيجادها.

([9]) ينظر بحث على عتبات الحضارة ـ الدورة الداخلية الداعمة، مهاد أطروحة الدكتوراه للباحثة.

([10]) مع عصر الدول المتتابعة، عُطِّلت الفريضتان؛ الجهاد والدعوة ـ ما خلا جيوبًا هنا وهناك وفي معارك فاصلة ضد الصليبيين أو المغول ـ بتوظيفهما، سلبًا، في الاقتتال الداخلي بين الدويلات الإسلامية وصراع الفرق الدينية، فما كان من العثمانيين إلا أن وجهوا الطاقات المعطلة إلى الخارج، وزجوا بها ضد العدو المتربص، وحولوها إلى قوة لترسيخ أركان الخلافة وحفظ أمنها. وقد عُرف عن العثمانيين أنهم رجال حرب لا فكر، وجهاد لا دعوة، شعارهم المميز "إما غاز وإما شهيد"، ولذلك فإنهم لم يرفدوا فتوحاتهم العسكرية بنشاط دعوي مكافئ يسعى إلى ترسيخ الفكرة الإسلامية في البلاد المفتوحة، فتحولت تلك البلاد في مرحلة الضعف إلى بؤر توتر وثورة. ولعل لسياسة العثمانيين اللامركزية، ولعلاقتهم الإيجابية بالأقليات، القائمة على الانفتاح والتفهم واحترام الخصوصيات الثقافية والدينية، دورًا في هذا القصور، فقد اكتفوا وقنعوا من سلطتهم في كثير من البلدان بالخراج، ووكلوا أمر الرعايا إلى كبرائها المحليين وسادتها الدينيين، من دون إدراك لأهمية الاختلاط بشعوب البلاد المفتوحة، ونشر الدعاة بينهم، لينقلوا إليهم الفكرة التي يحملونها. ولا تخلو هذه السياسة من تهرب من المسؤولية، أو تخل عنها، تجاه هذه الشعوب، أو تجاه واجب الدعوة نفسه، لا سيما أنها مورست في الإقطاعات المسلمة وغير المسلمة، ونجم عنها آثار خطيرة انعكست سلبًا على تمدين هذه البلاد وعمرانها، وخللاً في إدارتها، وزادت ضريبة "الالتزام" في مستوى الضرر المتحقق، كما لم تكن هناك متابعة حقيقية للولاة من قبل الدولة تلزمهم ببرنامج إصلاح محدد، أو طريقة إدارة تناسب خصوصية المنطقة، أو تراعي الحدود الدنيا التي ترضاها الدولة في رعاياها، الأمر الذي أدى إلى صدور أوامر عزل متلاحقة تحت ضغط شكاوي الأهالي، مما عرقل أي أمل في الإصلاح المستديم. ينظر في هذا الشأن: [11]: 88، 241، 245، 258. وقد شاء الوردي أن يسمي هذه الطريقة في الحكم بـ"الحكم السائب"، ينظر: [12]: 5/18، وينظر: [15]: 85.

([11]) ينظر: [12]: 7/25.

([12]) ينظر: [1]: 26/109-110. وإلى اليوم، يصف بعض الغربيين كل ما هو إسلامي بأنه تركي.

([13]) ينظر: [11]: 78-79، 89. ومع أن الدولة الإسلامية دولة دينية، فإنها لم تعرف هذه الظاهرة إلا نادرًا، والأصل أن يكون الخليفة مستمدًا سلطته الزمنية، وموقعه في الدولة، من سلطته الدينية ومكانته الروحية وخيريته، وهو الشكل المثالي الذي عرفناه في العهد الراشدي، ومنجمًا في عهود متفرقة فيما بعد، ثم استُحدث شكل كان فيه الخليفة رجل دولة فقط، أما القادة الروحيون فاستقلوا بسلطتهم التي لا تلزم الحاكم، وإنما تذكره إن كان من أولي الذكرى، أو ترهقه وترهبه بسلطتها على العامة إن لم يكن. وقد أدى الفصل الواقعي بين السلطتين، واستقلال القيادة الروحية للأمة إلى تفادي بعض الآثار السلبية لوراثة الحكم، وما تشتمل عليه من احتمال وصول حكام فاسدين إلى السلطة، وذلك بسلبهم القدرة على السيطرة على عامة الأمة، وتولية هذه المهمة لإصلاحييها الذين كانت تستجيب الأمة لنداءاتهم على الدوام، وتستهدي بهم في الملمات، الأمر الذي أخر الهرم الداخلي للأمة، وسمح لها بفرص نهوض متكررة، على الرغم من فساد حكامها في كثير من الأحيان. ولكن.. هذا الانفصال نفسه حرر القوة من سلطة القيم ورقابتها المباشرة!!    
([14]) ويقدم الوردي مثلاً لخضوع السلطة الدينية للمغريات الخارجية، بارتباطها بالسلطة، واستقلالها عنها، في نموذجين: شيعي وسني في العراق، [12]: 5/36. وهذا نابليون يحلل في مذكراته شخصيات علماء الأزهر فيصفهم بأنهم: "ذوو طباع هادئة، ويحبون العدالة، وعلى درجة من الثراء، وأصحاب مبادئ خلقية عالية، وهم من دون منازع أكثر الناس أمانة في مصر، ولا يركبون الخيل، ولا يمارسون أعمالاً عسكرية، ولا ينتظر منهم تزعم حركة مسلحة"، [14]: 8. فعلماء بهذه السلبية والعجز قد يكون في مقدورهم تحريك الشارع، ولكن لا يمكنهم قيادته، ولذلك يؤكد الشناوي أن زعامة الثورة المسلحة ضد الفرنسيين لم تكن خالصة لعلماء الأزهر، بل شاركهم فيها العسكريون العثمانيون والأمراء المماليك، [14]: 211.

([15]) يرتبط الدين؛ كمفهوم، بالاتباع والتقليد؛ كمنهج، ارتباطًا وثيقًا، ولا تخلو أمة من الأمم حتى في أكثر معارفها تحررًا وتجديدًا، من أن يكون التقليد خيارًا أو ضرورة لها في مرحلة من المراحل، وأن تكون فيها شريحة واسعة تتبع قادتها وتقلدهم، فالتقليد آلية محتملة وحيادية لا تعيق إلا العاجز، وتتعطل الأمم حين تفتقر إلى قادة يملكون الجرأة والقدرة على تجاوز التقليد إلى الاجتهاد استجابة للمتغيرات. والحضارة الإسلامية حضارة دينية يمثل الاتباع ركنًا أصيلاً في معرفتها، لا سيما في انطلاقتها الأولى حيث ساد ما عرف بمنهج "التسليم" في مقابل منهج "التأويل" الذي راج في مراحل لاحقة لمواجهة انتشار الشك والجدل الفلسفيين، ثم عاد التقليد إلى الصدارة بعد أن انتصر له الغزالي ليواجه الفكر الفلسفي وقد هدد يقينية الفكرة الإسلامية وجدارتها بقيادة الحياة والمجتمع، وأوجد داخل المجتمع المسلم تيارًا شكيًا وماديًا إلحاديًا يؤثر اللذة، ويدين باللادين.. فقلص ذلك كله من قوة الفكرة الدافعة وطاقتها الموجهة. لم يكن موقف الغزالي مبنيًا على اجتهاد شخصي وتجربة ذاتية فقط، ولكن قبل ذلك على استقراء للتاريخ الإسلامي؛ حيث وجد أن المنهج الاتباعي السلفي أثبت أهليته ولم يخذل الأمة حين تم اختباره في مطلع الحضارة، وأنه أسهم في تلك المرحلة باندفاعتها العلمية والعمرانية، ولذلك اعتقد أنه الحل الأمثل لمواجهة الفكر الفلسفي، ولتجديد الأمة التي أعياها الجدل وخذلها العمل. ولكن انتصار الغزالي لمنهج الاتباع لم يؤدِّ إلى النتائج التي توقعها؛ لأن هذا المنهج هو عنصر واحد من عناصر كثيرة ومعقدة كان يجب أن يحتويها مشروع إصلاح متكامل لم تتهيأ الظروف لوجوده، بالإضافة إلى أن الأمة التي اعتنقت مذهب الغزالي كانت غيرها في مرحلة الإقلاع الحضاري، إذ تشوهت فطرتها، وانحرفت خصائصها، واعتادت العطالة والكسل، وبدل أن تنهض بالتقليد، تواكلت عليه وأخلدت به إلى الأرض.

([16]) يرصد شوقي ضيف علامات ومظاهر الانحطاط العلمي، حتى في الأزهر؛ منارة العلوم الإسلامية الرئيسة في ذلك العهد، ينظر: [15]: 19-20، وينظر: [16]: 1/311، 480-481.

([17]) يتوسع الوردي في تحليل آثار مبدأ الشفاعة على الحياة الاجتماعية، ويرى أنها صورة من صور الوساطة و"الدخالة" الدنيوية التي تنقذ المسيء بالنفوذ، وتضمن راحة البال حتى مع الممارسات الفاسدة، فـ"الجميع واثقون بأنهم سيدخلون الجنة غدًا بواسطة الشفعاء الكرام"، [12]: 1/14، 1/181-182.

([18]) كتب أحد المستشرقين الألمان وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم الأخيرة، يقول: "طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله والرضا بقضائه وقدره والخضوع بكل مايملك للواحد القهار. وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان: ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دورًا كبيرًا في الحروب إذ حققت نصرًا متواصلاً لأنها دفعت في الجندي روح الفداء وفي العصور الأخيرة كانت سببًا في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي فقذف به إلى الانحدار وعزله وطواه عن تيارات الأحداث العالمية". [17]: 78. "وينفخ الإسلام في الناس روح الشجاعة المفعمة بالأمل زمن الحرب، ولكنه كان يغرس في نفوسهم وقت السلم روح التسليم بالقضاء والقدر التي تثبط من عزائمهم"، [1]: 30/135-136.

([19]) ينظر: [18]: 457. ويعتبر توينبي أن الحضارات تنتهي في مرحلة التحلل إلى ضرب من "التدين العفن"، حيت تُهزم الفلسفة أمام الدين، ولا يجد من يطّرحون طريق العقل سبيلاً إلى القلب، ويتحولون لا إلى قديسين، ولكن إلى مشعوذين. [3]: 2/ 341-342. وينظر في المعنى نفسه: [1]: 30/136.

([20]) لم يكن للسلاطين العثمانيين العاجزين من ردة فعل تجاه أخطر موقف يتعرض له سلطان؛ أعني موقف الخلع، إلا التسليم بالقسمة والنصيب، ينظر: [12]: 2/80، 3/144. وينظر[19]: 243.

([21]) ينظر: [12]: 1/ 34..

([22]) [3]: 1/323.

([23]) [3]: 2/301، أما ما وصل إليه الغرب اليوم من النظام، واحترام سلطة القانون، فقد كان حصيلة قرون عديدة من الصراعات الدموية والنضال الدؤوب ضد النزعات الهمجية والفردية.

([24]) "والأرجح أن بيروقراطية الدولة العثمانية كانت أقدر ما وجد من نوعها في النصف الأول من القرن السادس عشر"، [1]: 26/112.

([25]) ينظر: [20]: 767 وما بعد..

([26]) "كما اعتقد مؤرخ إنكليزي كبير أن "سير القضاء في عهد الحكام العثمانيين الأولين كان في تركيا أفضل منه في أية بقعة في أوربا، وأن رعايا السلطان المسلمين كانوا أدق نظامًا من معظم الجاليات المسيحية، وأن الجرائم كانت أندر"، [1]: 26/112-113. وينظر: [11]: 257.

([27]) قد يكون مفهومًا أن يعلِّم الظلمُ النفوسَ الذلَّ، ولكنه من عجائب النفس البشرية ومن نكبات العقل الإنساني أن يسلب سلطان القانون ـ وهو مطلب حضاري جمّ ـ من النفوس سورتها ويعلمها الانقياد والتطامن، وكان ابن خلدون أول من أدرك أثر الخضوع للقانون على الفعالية، وربط بين دولة القانون ودولة الاستبداد في تشجيع نقيصة الخوف والتكاسل، يقول: "..فإن كانت الملَكَة رفيقة وعادلة لا يعانى منها حكم ولا منع وصدّ كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار الإذلال جِبلّة لا يعرفون سواها وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتُذهب المِنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدَة" [21]: 1/ 157.

([28]) لأجل هذا رأى مكيافيللي أن حالة "السلم إذا طالت فوق ما يجب تؤدي إلى الضعف والتفكك، ولذلك كانت حرب تدور بين الفينة والفينة مقوية للقومية، تعيد للأمة النظام، والشدة، والوحدة"، [1]: 21/63. وأيد ديورانت.. "حيث كان لزامًا، للحفاظ على نظامه [الجيش العثماني] وكبح جماحه، أن يخوض الحروب"، [1]: 112.

([29]) ينظر: [12]: 2/9، 34. وينظر: [9]: 111.

([30]) البقرة /96.

([31]) "كانت تهيئة السبل لتحصيل العلوم والمعارف أو نقلهما هي أضعف حلقة في الحضارة العثمانية. وكان التعليم الشعبي مهملاً بصفة عامة. وضآلة العلم والمعرفة أمر خطير"، [1]: 26/120. "ولم يجد الناس في أنفسهم تحمسًا إلى كسب المعرفة وتحصيلها مثل الأوربيين الغربيين، فشجعوا الجمود وعدم التحرك، وكانوا أكثر استعدادًا للقناعة ولم يتصفوا بالطموح"، [1]: 30/135. وقد أكد الباحث الفرنسي دي فوجيو في عام 1878م أن "السكان المتواكلين الذين طحنهم الاستبداد كانوا أميين بالكامل تقريبًا"، [9]: 48، 8. وينقل ليفين عن رسالة نشرت في مجلة المنار مجهولة الكاتب تشكو من حال الشبيبة أنهم "..لا يتلقون تربية سوية، إن لم نقل إنهم لا يتلقون أية تربية على الإطلاق. فهم لا يتعلمون أي شيء من شأنه أن يحفز الفكر أبدًا... ولا يتلقون غير قشور فارغة..."، [9]: 49-50. "هكذا كانت الحياة قبل الثورة العرابية، لا يدرك الناس من المصالح إلا الداني القريب الذي يمس أشخاصهم، ولا يعرفون من المتع إلا أدناها مما يتصل بملذات الجسد، ولا يرسلون أبناءهم إلى مدارس القرية (الكتاتيب) إلا أن يكونوا عميانًا يرتزقون بقراءة القرآن"، [16]: 1/234.

([32]) "وكانت دائرة اهتمامات الناس محدودة. ففي المساجد والمقاهي والحمامات العامة ـ الأندية العربية الفريدة من نوعها ـ لم يكن الناس يتحدثون تقريبًا إلا عن الشؤون العائلية وعن أحداث الحياة اليومية، وكانوا يتناقلون الشائعات والخزعبلات فيما بينهم". [9]: 8.

([33]) يرصد نعيسة بعضًا من مظاهر الفساد والغش والخداع والغلاء، وما نجم عنها من ثورات أهلية طالت المحكمة والقضاة لعجزهم وفسادهم. [22]: 1/ 269-270.

([34]) [2]: 490.

([35]) عاش الغرب في عصور الظلام تجربة حضارية مماثلة، إذ كانت الفكرة المسيحية ذخيرته التي تصد عنه الأخطار وتكتّله أمامها، وعلى الرغم من أنها في صيغتها المحرفة لم تلتحم بالحياة وتعارضت مع المصالح وكانت سلبية في البناء والإعمار، فقد استطاعت أن تحمي الغرب من الذوبان وتكون درعه الواقي في مواجهة الحضارة الرائدة، إلى أن أسلمته إلى الريادة الحضارة حين توافرت الشروط الموضوعية لذلك.

([36]) ينظر: [12]: 2/12-13.

([37]) ينظر: [22]: 1/ 257-258. في العراق اليوم، أسهمت الولاءات الضيقة؛ القبلية والدينية والأسرية، في تنظيم مقاومة صلبة وغير قابلة للاختراق من قبل المحتل الأمريكي، وهذا يعني، وبمنطق المفهومات ذاتية التناقض، أن الولاءات المحلية، إن أُحسن توظيفها، يمكن أن تستثمر في المجتمعات العربية كقوة منظِّمة، بدل أن تعتبر قوة مشرذِمة يعيي الخبراءَ والسياسيين تفتيتُها.

([38]) ينظر: [22]: 1/ 270.

([39]) ينظر: [22]: 1/ 269-270.
الاسم

الآداب العالمية,1,الإحياء,1,الأدب العربي,1,الأدب العربي القديم,2,الأصالة,2,الانحطاط,2,الأنواع الأدبية,2,التراث,3,الحداثة,4,الحضارة الإسلامية,5,الحضارة الغربية,1,الخلافة العثمانية,2,الشعر العربي الحديث,4,اللغة العربية,1,المنهج الأدب,2,المنهج الحضاري,2,النقد الأدبي,1,النقد العربي,1,النقد العربي الحديث,1,النهضة,3,بحوث محكمة,5,بحوث ودراسات,7,تداخل الأنواع,1,تعليم العربية,1,تعليم العربية بالسليقة,2,تعليم العربية للأطفال,1,دراسات وأبحاث,2,رسائل علمية,2,عوامل الانهيار الحضاري,3,فلسفة الحضارة,3,قوانين الحضارة,2,كتب,3,كتب منشورة,3,مؤتمرات,3,محاضرات ومناهج,4,مقاصد الشريعة,1,مقالات,1,نظرية الأدب,7,وظيفة الأدب,5,
rtl
item
د. بتول أحمد جندية: الانحطاط وأزمة الفاعلية ـ تنقيب عن العلل والآثار، د. بتول جندية
الانحطاط وأزمة الفاعلية ـ تنقيب عن العلل والآثار، د. بتول جندية
الانحطاط وأزمة الفاعلية، بحث محكم في عوامل انحطاط المسلمين وسقوط الخلافة العثمانية، د. بتول جندية
https://1.bp.blogspot.com/kc5fHZeWJd2Sz_ZmBjrRTTjEXKjrd6AF1DvPue-7HVi3b29dRWaXCfiLQKnNHx3SLdxcVjSBlBdGeekVwvDia1fvI6oW-3x3WfBGHDRVlZbLsNJwbHUA97T65Qc8iCYolrEsFpJLtYl41Fs9eZbK8Y6FVXqkucpot6B0XOYWOHI_mLe-0gFwUVKfho6FtvQUoZ6DeJ3aGsE_rdaKkkeFqeGOCseU2e83EsEDbSTViOyMEFjJOqmVFEfv0x_mf684pvoSEs_SQvQqb3aIMXjIVa2IGEjUS-zuuJc8rE4uQ2plMVJj8OXgPebTY9a5hmGtbG01fmsmtEC1LP_o8SahYOhNu4vuRuFwSjBjrc1Rlmi_1Z-AYtm5iwJiQtfv5VfMc0gir2J4t-QM6pVyQlpybKoORR662pIGAyxFzjZ4QyYo5GIM3bYIqtzluk8QIjhxut_KVcA_vFTcOhNBFvp6N29bgmHxk2v8opLqoIZG7q2Pb1ErIkZJbK8ZWoEljrYVKH82E4ZkJ-zPKqbNStsMnhv9ZcrrnC5Us84Q0tsZwmiT2cYHzz9ukwdE2cXh83HAytsQVAFo2I-vw-c8ad32fFpg2WNvr9mJ4VlQSCTr-EwzbPlM=w1324-h662-no
https://1.bp.blogspot.com/kc5fHZeWJd2Sz_ZmBjrRTTjEXKjrd6AF1DvPue-7HVi3b29dRWaXCfiLQKnNHx3SLdxcVjSBlBdGeekVwvDia1fvI6oW-3x3WfBGHDRVlZbLsNJwbHUA97T65Qc8iCYolrEsFpJLtYl41Fs9eZbK8Y6FVXqkucpot6B0XOYWOHI_mLe-0gFwUVKfho6FtvQUoZ6DeJ3aGsE_rdaKkkeFqeGOCseU2e83EsEDbSTViOyMEFjJOqmVFEfv0x_mf684pvoSEs_SQvQqb3aIMXjIVa2IGEjUS-zuuJc8rE4uQ2plMVJj8OXgPebTY9a5hmGtbG01fmsmtEC1LP_o8SahYOhNu4vuRuFwSjBjrc1Rlmi_1Z-AYtm5iwJiQtfv5VfMc0gir2J4t-QM6pVyQlpybKoORR662pIGAyxFzjZ4QyYo5GIM3bYIqtzluk8QIjhxut_KVcA_vFTcOhNBFvp6N29bgmHxk2v8opLqoIZG7q2Pb1ErIkZJbK8ZWoEljrYVKH82E4ZkJ-zPKqbNStsMnhv9ZcrrnC5Us84Q0tsZwmiT2cYHzz9ukwdE2cXh83HAytsQVAFo2I-vw-c8ad32fFpg2WNvr9mJ4VlQSCTr-EwzbPlM=s72-w1324-c-h662-no
د. بتول أحمد جندية
http://drbjund.blogspot.com/2016/10/blog-post_19.html
http://drbjund.blogspot.com/
http://drbjund.blogspot.com/
http://drbjund.blogspot.com/2016/10/blog-post_19.html
true
2808715583222376053
UTF-8
طالع بقية المقالات لا توجد أية مقالات مقالات أخرى تابع القراءة Reply Cancel reply Delete By الرئيسة PAGES POSTS شاهد الجميع موضوعات ننصحك بقراءتها قسم أرشيف بحث كل المنشورات ليس هناك أية مقالات ذات صلة بطلبك ارجع إلى الرئيسة Sunday Monday Tuesday Wednesday Thursday Friday Saturday Sun Mon Tue Wed Thu Fri Sat January February March April May June July August September October November December Jan Feb Mar Apr May Jun Jul Aug Sep Oct Nov Dec just now 1 minute ago $$1$$ minutes ago 1 hour ago $$1$$ hours ago Yesterday $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago more than 5 weeks ago Followers Follow THIS CONTENT IS PREMIUM Please share to unlock Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy