بحث عن تداخل الأنواع الأدبية وتمايزها في التراث الأدبي العربي، مقدم في مؤتمر النقد الثاني عشر الذي نظمته جامعة اليرموك عام 2008 - د. بتول جندية
الأنواع الأدبية التراثية ـ رؤية حضارية
المخطط:
- مقدمة
- الأصول الحضارية للظاهرة الأدبية عند العرب
- الأدب بين التوصيل والتأثير
- مفهوم النوع الأدبي في التجربة الأدبية العربية:
- إرادة الذات وإرادة الجماعة - المصالحة
- سلطة التلقي
- التمثّل النوعي بين الإبداع والتلقي (المقام الأصلي، والمقام الطارئ)
- الأنواع الأدبية التراثية بين التداخل والتمايز
- بين صلف العمود وجبروت التاريخ
- خلاصة
- المصادر والمراجع
- الحواشي
مقدمة:
جُرجر الأدب العربي إلى ساحات لا يُعرف فيها إلا غالب أو مغلوب، وفي طوفان المفاهيم والقيم كان على التراث أن يتملق إنساننا المعاصر ليرضيه ويحظى منه بالاعتراف والشرعية، وغبر ذلك الزمان الذي كان فيه التراث سيد الموقف وحكمًا ذا سلطان؛ يعدل أو يجور... ومهما يكن من أمر فإنه مطلوب منا اليوم أن نقدم رؤية التراث في قضية الأنواع الأدبية التي اشتط فيها الخلاف حتى لم يعرف حق أو باطل، ولعله يكون غريبًا أن نقول إن العرب الذين افتقدوا معالم النظرية النقدية الواضحة المتماسكة، كان لهم موقف واضح ومستقر في شأن الأنواع الأدبية وتداخلها قد يفجأ المرء لما فيه من سبق وفرادة وتكامل يحتوي في إهابه الثابت والمتغير، دون أن يجور طرف على طرف. آه... أن "يحتوي الثابت" فهذا أمر مفهوم وشبه حتمي في حضارة المرجعيات المقدسة، أما أن يحتوي المتغير فهذا ما قد يظن أننا نتقول به على التراث، ذلك لمن كان يرنو إلى التراث من بعيد دون أن يستجلي سيرته الحضارية ويقف على الأسس التي حكمت علاقاته ومواقفه!! وليس شيء أمنع أن يسلمك موفقه في شأن من الشؤون من التراث، وليس شيء أكثر منه طواعية إن تجردت من قناعاتك السلبية ورحت إليه متطامنًا لقوانينه، مصغيًا لهديره الذي ملأ به سمع الزمان حقبة خلت من العصور.
صحيح أن هذا البحث معني بدراسة موقف التراث من قضية الأنواع الأدبية، إلا أنه سيقدم بين يدي البحث كثيرًا من الأسس الكلية الحضارية التي رسمت ملامح التراث وفرضت سيرورته التاريخية، لنشهد تلاحمًا عجيبًا بين العام والخاص، والتدخل الحتمي لتلك الأسس في صياغة الذوق الأدبي وتحتيم الشكل الفني وتوليد التنوع في الموقف النقدي.
الأصول الحضارية للظاهرة الأدبية عند العرب:
تنطلق هذه الدراسة من الخصوصية الحضارية في تدبر الظاهرة الأدبية، وهي تقرّ ابتداء بوجود مساحة واسعة من المشترك الإنساني تشهد به الظاهرة الأدبية نفسها، وكأن هذا المشترك يردنا إلى الكلي المطلق، أو إلى الفطري الغريزي الذي يعلو على الاختلاف ويؤكد وحدة الأصل الإنساني. ونستطيع أن نتلمس هذا المشترك في وجود أنواع أدبية متماثلة في الحضارات المختلفة مع احتفاظها بسمات شكلانية متقاربة، وفي حركة الأدب بين الخلق والجمود والتقليد والتجديد.. بيد أن غياب أنواع أدبية معينة في تراث حضارة من الحضارات، وولادة أنواع أخرى في تربة ثقافية مغايرة لن يكون اعتباطًا، وسيردنا من جديد إلى الخصوصية الحضارية، وإلى أن الظاهرة الأدبية ظاهرة تاريخية محكومة بظروف إنشائها، ليس ذلك على سبيل الانعكاس الآلي في صورة وشكل مقررين سلفًا، بل استجابة مرنة لنسيج تلتحم به ولن تستطيع أن تقفز عليه، وإلا كانت مسخًا خاوي المعنى عديم الهوية هامشي الوجود.. وهذا ما يعطيها طابعها التاريخي.
في إطار هذا الوعي تبدو الظاهرة الأدبية العربية التراثية كائنًا ذا ملامح مميزة، تنأى به عن التجارب الأدبية للحضارات الأخرى بدرجات تحفظ له خصوصيته التاريخية، وترسم تفرده، وتصون في خفاء ولاءه لعالم حضاري نبت في ظلاله وترعرع بين أفيائه.
لم يكن الأدب عند العرب مجرد أداة جمالية تقال للعجب أو لتحصيل اللذة، وإنما كان تقنية حضارية فريدة استجابت للمشكلات التي فرضها الواقع التاريخي، وعبرت عن الخصوصية المعرفية والروحية للعرب. وإنما تعمقت صلة العرب بالأدب، وبلغوا الغاية في تذوقه والتأثر به، لما عرف عنهم من "نزوع غائي" يصرف كل جهدهم إلى ما يبلغ بهم غاياتهم الجليلة التي تعتبر "النفع" أصلاً لها، والأخلاقَ مكونًا أصيلاً فيها. واستطاع الأدب أن ينهض بهذه المهمة الثقيلة دون سائر الفنون لأن "الكلمة"، مادتَه الخام، شكلٌ ومضمون يستحيل بتاتهما، كما أن الأدب يستند إلى اللغة، واللغة منتَج اجتماعي وظيفي يخدم حاجات التواصل والتفاهم بين الأفراد والجماعات، وقناةٌ أساسية للمعرفة وتبادل الخبرات والمعلومات. وبذلك توفر في الأدب استعداد أصيل لتمثل مطمح "المنفعة" الذي تجتمع عنده كل الغايات.
لم يستطع ابن المقفع إلا أن يعترف للعرب بتأصل النزوع النفعي في نفوسهم حتى لكأنه فطرة تصل ما بينهم وبين الأخلاق والمحامد بسبب متين ينضح مواقف وإبداعًا. ولهذا استحقوا لقب "أعقل الأمم" في رأيه، يقول: "... وجعلوا بينهم شيئًا ينتهون به عن المنكر، ويرغّبهم في الجميل، ويَتَجَنَّون به على الدناءة ويحضّهم على المكارم، حتى إن الرجل منهم وهو في فجّ من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئًا، ويُسرف في ذمّ المساوئ فلا يقصِّر؛ ليس لهم كلام إلا وهم يُحاضّون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلّمون ولا يتأدّبون، بل نَحائزُ([1]) مؤدَّبة، وعقول عارفة؛ فلذلك قلتُ لكم: إنهم أعقل الأمم، لصحة الفطرة، واعتدال البنية وصواب الفِكْر وذكاء الفهم"([2]). فالعرب يتحركون إلى المكارم وكل غاية نبيلة بإيعاز حافز غير موصوف ـ "شيئًا" ـ يحملهم على الجميل ويحجزهم عن القبيح، حتى لكأنما هذا الحافز من نسيج عقولهم وأولياته الفطرية. فالنفع من المنظور العربي هو المقيد بالجميل الذي تم تفسيره تفسيرًا أخلاقيًا، والخير الموصوف في النص لازم ومتعدٍ، فنحن نستشعر ما يخفى وراء مظاهر السلوك المذكورة ذات المحتوى الأخلاقي من دوافع تنطلق من الإحساس بالمسؤولية تجاه الجماعة، والتزام بالنفع العام بما يجعله مؤطِّرًا للمنفعة وللخير في آن. كما أن النص يلحظ في نتاج العرب المنطوق تلك الوحدة المستقرة بين الحق والخير والجمال، وكأن كل قيمة تؤول في النهاية إلى تحقيق هذه الوحدة، بما أن معايير التقويم تستمد من التهذيب الفطري، والعقل العارف، والاعتدال التكويني.
وفي حقل الأدبية تحديدًا، يقدم بشر بن المعتمر هذه المعاني في إيجاز محكم يزيل ما قد يعلق بها من ظنّة، يقول: "إنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال"([3]). فالصواب معيار عقلي معرفي، وهو سابق على المنفعة وضابط لها، ما يعني أن الإمكانات المعرفية للنص تحدد قيمته النفعية، وهذا ما يؤكد أهمية الوظيفة المعرفية للأدب. وفي هذا الإطار من التعميم والإطلاق وحوار الكليات، يتدخل السياق أو المقام ليؤكد البعد النسبي في تشكيل الجمالي في تعالق عجيب منه يتخذ الأدب صيغته النهائية التي تحقق له المثالية والواقعية، الثبات والحركة في آن.. وهذا يعيدنا إلى ما كان ابن المقفع قد لمسه عند العرب من "اعتدال" في البنية شاء أن ينتقل من المادي إلى المعنوي، وأبى إلا أن يترك آثارًا لا تمحى في تفاصيل حياتهم كلها، فلما جاء الإسلام أقره تحت شعار "الوسطية" التي رفعها منهجًا للحياة لم يكن له نظير في حضارات العالم كلها...([4])
وبهذا الفهم للوظيفة الموصوفة بالمنفعة، والمنضبطة بالأخلاق والمعرفة، نهض الأدب بدوره الحضاري، ومثل ذروة النشاط المعرفي العربي، وخلاصة قيم الأمة. وإن ثقل هذا الدور وأهميته يكمن فيما يمكن أن نطلق عليه تعبير "المعرفة الحية" وهي الصيغة الأصيلة والمعترف بها للمعرفة في الرؤيا العربية والإسلامية، يقصد بها الوصول بالمعرفة إلى درجة التمثل في الحياة الواقعية، والتحول إلى سلوك وفعل. وتُقبل، بل تُطلب، المعرفة التي تحقق هذا المستوى، وينظر بغير قليل من الازدراء إلى المعرفة النظرية المغرقة في التجريد والتحليق الفلسفي، لما بينها والحياة الواقعية من فجوة لا تردم غالبًا. ولهذا فإن الكلبي قد حصر القيمة كلها في "الفعل"، وأجاب خالدَ بن عبد الله القسري لما سأل عن السؤدد: "..كان أبي يقول: لم يدرك الأولُ الشرفَ إلا بالفعل، ولا يدركه الآخِرُ إلا بما أدرك به الأولُ،... خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وذلك أنه إذا كان كذلك اتقى على نفسه من السَّرَق لئلا يُقطَعَ، ومن القتل لئلا يُقاد، ومن الزِّنا لئلا يُحَدَّ، فسَلِم الناس منه باتقائه على نفسه"([5]). والكلام عند العرب خَدِين الفعل ولحظة من لحظاته منه يستمد قيمته، وإليه منتهى أثره:
وعِيّ الفَـعال كعيّ المقـال وفي الصمت عيّ كعي الكلِمْ([6])
ويؤكد محمد المبارك أن "المنازع القولية عند العرب هي منازع فعلية...، فالفعل هو الهدف النهائي والأخير لكل قول أدبي أما الفن فهو المتضمن في هذا القول إذ يشكل مع الفعل أساس بنيته التكوينية"([7])، ومن هنا فلا عجب أن تكون كلمة أدب([8]) نفسها مشتقة في اللغة من الدعاء إلى المكارم؛ وفي الدعاء معنى الحثّ والحضّ والتزام بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الجماعة([9]). أي إن للأدب قوة إجرائية تغيرية يمتدّ أثرها إلى السلوك والواقع المادي، وعن طريقها يمكن بلوغ هدف المعرفة الحية. وإنما كان ذلك للأدب لما له من طاقة "تأثيرية" غلاّبة تُستمد من خصائصه الجمالية، فتمتصّ الممانعة وتحمل على الاستجابة المباشرة.
بيد أن العرب لم يقنعوا بهذه الرتبة العالية للقول، بما أن التأثير قد يتلاشى تحت وطأة المقاوَمات المتوقعة من داخل الذات أو من خارجها، وبالتالي فقد تطلعوا عن طريق الأدب إلى أن يلازم النصُ الذاتَ العارفة، يغنيها ويشحذها ويمدّها بالعزم اللازم للثبات على القيم والفعل. ووجدوا بغيتهم في منهج "الحفظ"([10]) الذي غذّته مستويات الخطاب اللغوي الأدبية، حتى غدا منهجًا عامًا ظاهرًا في الحضارة العربية الإسلامية، يحقق هذا الاتّصال المستمرّ بالمعرفة؛ ما يجعل الذات في جدل تطوير حيّ ومتجدّد. وكان من لوازم منهج "الحفظ" منهج "الرواية" الذي بزّت به الحضارة العربية الإسلامية سائر الحضارات، وكان تولَّد عن مشكلة أدركها العرب إدراكًا يثقل الكاهل، ذلك أن الذات العارفة محدودة بزمان ومكان، وهما يتهدادانها أبدًا، ومن ثم فإن معارفهم جلَّها مهددة بهذا الخطر الحتمي لا سيما أنهم أمة شفوية لا تعرف الكتابة ولا التدوين!! الإحساس بهذا الخطر أوجد مستوى آخر "للمعرفة الحية"، وهو "المعرفة الخالدة" التي لا تفنى، ولا يعيقها عائق عن بلوغ أبعد آفاق الانتشار الكمي والنوعي. وإنما المراد بالانتشار الكمي الانتشار الأفقي في الزمن بتجاوز عوائق المكان، ويقصد بالانتشار النوعي حفظ ذات المعرفة بتجاوز عوائق الزمان وعبر الانتشار العمودي في التاريخ. وقد اتكؤوا لبلوغ هذا المأرب على "الرواية" آلية جوهرية في تناقل النص، وقد أسهم هذا بدوره في جعل الحضارة العربية الإسلامية حضارة "نصية، معيارية" تقدم النص على الاجتهاد، والنقل على العقل، لما في ذلك من وصل للحاضر بالماضي، وصون متين لثوابت الأمة وأسسها الراسخة، وما يترتب على ذلك من صون للذات الحضارية نفسها من الفناء، لقد ضبطت الحركة التاريخية بالنص.
إن مفهوم "المعرفة الحية" قد تدخل في رفع الأدب إلى ذروة سنام المعرفة، بما يحوزه من أثر جمالي وتقنيات خاصة تحرك النفس إلى الفعل وتحثها عليه، وفي الوقت نفسه تصون مادة الأدب وتحفظها من الفناء، وهذا قد فرض على الأدب شكلانية معينة، وحدد سمات أنواعه وخصائصها الداخلية، ورفع بعضها فوق بعض درجات.
إن اطلاع الأدب بالمهمة المعرفية، واتخاذه حاملاً للقيم وداعيًا إليها في الوقت نفسه، يردنا إلى الحضور الجماعي في الأدب، والعرب شعب ذو نزوع جماعي طاغ، وعلى الرغم من أن الأدب نتاج فردي، فإن الوحدة بين العام والخاص، والفرد والجماعة التي ألمح إليها نص الكلبي والناشئة عن اتحاد الغايات، قد استطاعت أن تحقق هذا التوازن بين الدوافع الفردية والغايات الجماعية، ولا ننسى أن دافع الولاء للجماعة من أقوى الدوافع التي تحرك الفرد العربي، وتصوغ طموحاته وتضبط رغباته، وقد استطاعت الجماعة العربية أن تجذر هذا الولاء في نفوس الأفراد من خلال عاطفة "الفخر"، والعرب ـ كما يقول الجاحظ: ـ "...نفوسهم [بعد ذلك] أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر"([11]). وهذا الفخر موجه للماضي ، منبع القيم العربية الصافية ـ لأنه لا يدرك الآخر الشرف "إلا بما أدرك به الأول". إن المرجعية التاريخية لا تمثل شعائر ميتة جوفاء مفرغة من المعنى، أو قيدًا مكبِّلاً لإمكانات البناء والتطوير، بل إنها ضوابط تضمن استمرار مقومات الوجود الجماعي وحمايته من الضياع والذوبان والاضمحلال. لقد تشكلت الحياة العربية عبر منظومة متكاملة من المرجعيات التي غطت مناحي الحياة البشرية كلها؛ تاريخيًا واجتماعيًا ومعرفيًا وسياسيًا.. حتى لقد سيطر عليهم الاتجاه المعياري وربطهم ربطًا إلى أصول وكليات لا يجدون حياتهم إلا بها ومن خلالها، وتمثلت سلطة هذه المرجعيات في صورة مجموعة من الأعراف والتقاليد ذات المهابة يعايرون بها مواقفهم وقيمهم، ويضبطون بها حركة حياتهم. ومثّل الأدب أحد أهم المرجعيات فصار له من الخطر والمهابة ما يقتضي أن يصان عبر تقاليد تضاهي في صرامتها درجة ذلك الخطر.
إذن، فإن التقليد بوصفه آلية معرفية لم يكن يعطي انطباعًا سلبيًا، ونحن نتكلم الآن في المرحلة الجاهلية حيث الاندفاع والتلقائية، وإنما عاب عليهم الإسلام التقليد الأعمى الذي يتعارض مع أصولهم الفكرية السليمة التي تحكِّم الصواب في كل الأحوال، ولذلك فقد سُنّ "الاتباع" و"القدوة" مفهومين يؤازران التقليد ويتكئان عليه في الوقت نفسه. إن التقليد([12]) آلية معرفية غنية إن أُحسن استغلالها ولم تتخشب في صور متكلسة فاقدة الرواء والروح في نفوس كسولة فقدت طموحها واندفاعها وانطفأت الشعلة التي تغذيها للحركة والعمل، وإن تأكيدنا هذا سيكون عميق الأثر في حركة الأدب التراثي، ومدخلاً ضروريًا لفهم طبيعته التاريخية والفنية وتشكيلاته النوعية.
ويلزمنا لنتم حديثنا في المؤثرات الحضارية في الأدب العربي أن نعطف على ما كنا قد استهللنا به هذه الفقرة من أن العرب وُهبوا حساسية عالية لتذوق الكلم وتلمس مواطن الجمال والقبح فيه، هذه الهبة جعلت فيهم استعدادًا عاليًا للتواصل الأدبي، وهيأت بيئة ثقافية قادرة على تغذية الظاهرة الأدبية بالقدر ذاته الذي أسلمت فيه قيادها للأدب، وسمحت لنفسها بامتصاصه، وتسخيره جماعيًا وحضاريًا. يقارب ابن رشيق هذه البيئة مقاربة لطيفة حين يقول: "والاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتدارًا ودلالة، ليس ضرورة؛ لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم، وليس ذلك في لغة أحد غيرهم... على أنا نجد أيضًا اللفظة الواحدة يُعبّر بها عن معان كثيرة... وليس هذا من ضيق اللفظ عليهم، ولكنه من الرغبة في الاختصار، والثقة بفهم بعضهم عن بعض"([13])!!! هذه الثقة المستندة إلى بيئة ثقافية واحدة مشتركة مَدّت في مساحة الفعالية الأدبية، وعنفوان التأثير، ورفعت الطاقة الوظيفية إلى الدرجة القصوى. وسيكون أثر هذا العنصر أشد وضوحًا عندما نرصد تقلصه في المراحل التاريخية المتأخرة؛ حيث شُوهت ملامح هذه البيئة بكثير من المؤثرات، وسمحت بتقليص دور الأدب الحضاري وعرقلة بعض مستويات المعرفة الحية.
إذن فلم يكن الأدب العربي أداة جمالية بسيطة للتلذذ والاستملاح، بل مثّل قمة النشاط المعرفي عند العرب، وتضمن خلاصة وعيهم الحضاري وذوقهم الجمالي، هذا الذوق الذي ارتكز على الحق والخير أو الفكر والأخلاق، في صيغة تغيب فيها حدود هذه الثلاثية لتتماهى بعض عناصرها في بعض. كما شكل الأدب العربي في بعض مستوياته مظهرًا للالتزام الفردي تجاه الجماعة والصدور عن غاياتها دون أن تفنى الذات الفردية أو تهمش في المجموع، وبهذا يكون الأدب العربي أدبًا نفعيًا استقى قيمته من خطورة وظيفته الحضارية التي تكافئ وجود الأمة نفسها.
الأدب بين التوصيل والتأثير:
إن من شأن اللغة في درجة الصفر أن تحقق هدف التوصيل، في حين أن اللغة الجمالية تسمو فوق هذا المطمح العام والمبتذل! هذا ما يقال في الأدبيات الحديثة، بيد أنه كان للعرب شأن آخر مع التوصيل، فقد اعتقدوا جازمين ـ وانصاع الأدب لهذا الجزم ـ بأن التوصيل هو أعلى العتبات التي يُطلب من الأدب، ويطمح هو، إلى وصولها. ولما كان للأدب وظيفة معرفية جوهرية، كانت القمة التي تتنافس النصوص الأدبية في الوصول إليها هي "البـلاغة"، والبلاغة وصف تقويمي يُستحق للأقوال التي تبلغ أقصى درجات الإبداع، وإنما كانت "البلاغة" مشتقة من "الإبلاغ" لتمتن صلة الإبداع بالأصل الوظيفي للغة، وبالغاية المعرفية للأدب. يورد تاج العروس أن الإبلاغ في اللغة هو الوصول و"الانتهاء إلى أقصى المقصِد والمنتهى، مكانًا كان، أو زمانًا، أو أمرًا من الأمور المقدرة."[14]، وكأنك إذا أردت أن تحقق أقصى غايتك في تبليغ المراد وتوصيله إلى المتلقي فإنما عليك طريق البلاغة أو الأدب؛ أي إن الأدب يحقق غاية التوصيل في أعلى درجاتها، وذلك لما له من خاصية التأثير. وإنما "سميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه"([15])، و"قيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع، ولذلك سميت بلاغة"([16]). ومصطلح "البيان" كذلك مشتق من الإبانة والكشف، وهو "اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجُم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع" ([17]). والفصاحة لا تخرج عن هذا الإطار التوصيلي: "قال قوم إنها من قولهم أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره"([18]). إن الاختيار موقف، وأن تصر أمة على أن تحصر اختياراتها اللغوية الناعتة لأسمى درجات الإبداع الأدبي في دائرة التوصيل، لا بد معلن عن موقف معرفي وحضاري ذي شأن!
وواضح من النصوص الشارحة لمفاهيم مصطلحات التقويم الجمالي الأساسية عند العرب، أنها تتصل بسبب متين إلى "الإفهام"، وكأن الإفهام هو الغاية التي ينتهي إليها التوصيل، والإفهام مصطلح يتعلق بالمعرفة والفكرة و"المعنى"، لا بالشعور والعاطفة، وهذا يدعم من جديد ما نعمد إلى إقراره من تأصل الوظيفة المعرفية في الظاهرة الأدبية العربية، وأن العاطفة هي عنصر عارض في التجربة الأدبية، وسنجد أثر هذا الفهم عامًا في أنواع الأدب العربي كلها، شاملاً لها على اختلافها؛ الشعرية والنثرية.
أفيفضي بنا هذا إلى أن العرب لم يميزوا الجمالي من الوظيفي، وجعلوا اللذة عين المنفعة، حتى فقد الجمالي هويته، وضاع الأدب في شؤون اللغة؟!!
لم يكن الشأن كذلك أبدًا، لأن العرب اشترطوا لبلوغ أقصى درجات التوصيل، الاستعانة بأقصى طاقات "التأثير"، وقد ذكرنا في فقرة سابقة أن العرب وعبر ميلهم الغريزي إلى الاعتدال قدموا صيغة تتماهى فيها قيم الحق والخير والجمال في وحدة كلية هي ذروة التشكيل الجمالي لديهم. وإذا كان ابن سينا قد جنح إلى الاعتقاد بأن العرب تقول الشعر "لوجهين: أحدهما ليؤثر في النفس أمرًا من الأمور تُعَدُّ به نحو فعل أو انفعال؛ والثاني للعجب فقط، فكانت تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه"([19])، فإن شطر كلامه الأول يؤكد جوهر نظريتنا السابقة، وشطر كلامه الثاني الذي يرى فيه الأدب للعجب فقط، لا يخرج عما نقول مطلقًا، لأن العرب اشترطت في التشبيه القرب والإصابة، والوضوح في العلاقات، ليخُلِص الجمال للمعرفة، أو التأثير للتوصيل. يقول المبرد:"وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبّه، وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة"([20]). وهذا يعني أن التقنية الأدبية نفسها قد شُدّت شدًا محكمًا إلى الغاية المعرفية، وأن غرضًا شعريًا ممعنًا في التعلق باللذة الشكلية، وظاهر التجرد عن الغاية؛ كالوصف، بابٌ عريض للثراء المعرفي بالحياة العربية والمشاهدات الحية واستحضار الغائب وتمثيله للعين كالحاضر. وهذا ما حملهم على جعل المحاكاة في الأمور المحسوسة ما دامت وظيفتها المعرفة لا اللذة، وتقريب المعنى لا إيهامه. يقول حازم القرطاجني: "وينبغي أن ينظر في المحاكاة التشبيهية، من جهات، فمن ذلك جهة الوجود والغرض، وينبغي أن تكون المحاكاة على الوجه المختار بأمر موجود لا مفروض، وينبغي أن تكون المحاكاة في الأمور المحسوسة"([21]). بهذه الطريقة ضمنت الحضارة ولاء الأدب للمعرفة، وإن كان القصد المباشر موجهًا إلى الشكل وإلى اللذة بصورة حادة دعت ابن سينا إلى جعل شطر شعر العرب في العجب المحض!
وعلى الرغم من أن الذوق العربي ـ وبسبب من مرونة وانفتاح، وحساسية عالية للكلم ـ قد اتسعت لديه منافذ التأثير وتنوعت تنوعَ الحياة وخصوبتها، فإننا نستطيع أن نقول إن التأثير يرتد في جميع صوره وآفاقه إلى ما سماه ابن سينا بـ"العجب" أو الإدهاش، وهو يتأتّى من توفر درجة ما من الانزياح عن المألوف والدارج، لا في الاستعمال اللغوي فحسب، بل في كل مكون من مكونات العمل الأدبي الداخلية والخارجية، البشرية واللغوية والظرفية. وهذا التعدد المرتدّ إلى وحدة سيكون له أثر جليل في تداخل الأنواع الأدبية في مستوى التلقي والتذوق، سنرصده في موضعه إن شاء الله.
مفهوم النوع الأدبي في التجربة الأدبية العربية:
قد يكون ما سبق ذكره توطئة مسهبة للدخول في قضية الأنواع، لولا أن النوع هو التجسد العيني لمفهوم الأدب ووظيفته، ويظل مفهوم الأدب مجرد افتراض نظري إن لم يقيض له أن يتعّين في أنواع واضحة الملامح متمايزة الخصائص متلونة السمات. وقد اخترنا في هذه الفقرة أن نتكلم على مفهوم النوع الأدبي في سياق التجربة الجمالية العربية خاصة، لأنه كما يتغاير مفهوم الأدب بين الثقافات والحضارات المختلفة، يتغاير تبعًا لذلك مفهوم النوع وتجربة التنويع الأدبية بالضرورة([22]).
1- إرادة الذات وإرادة الجماعة - المصالحة:
تتكون ملامح النوع الأدبي عبر تراكم طويل من التجارب والخبرات، وهو لا شك يبدأ من الأفراد المبدعين الذين تتجلى لديهم الموهبة اجتراحًا غير مسبوق، وجرأة فريدة في مجال الاستخدام اللغوي، بيد أن النوع هو عملية انتخاب حضاري تصطفي الحضارة فيه الأصلح والأشد تمثلاً لخصائصها، والأقدر على النهوض بالغايات الجماعية، وما هو أكثر استجابة للمشكلات المصيرية، وهذا أهم ما يميز النوع من النص المنضوي تحته. وقد تتخذ الإرادة الحضارية الذات الفردية الفائقة أداة تحقق بها النوع الملبيّ لمتطلبات المرحلة التاريخية، وتلتقي عند هذا الفعل الإرادتان الفردية والجماعية، وكل نشاط فردي يعاكس متطلبات المرحلة التاريخية والشروط الحضارية يمنى بالفشل مهما حققت الذات الفردية تفوقًا وفرادة، وقد تكون الاستجابة الحضارية عن طريق المعاكسة أو المسايرة، وفي استطاعة الذات الفردية تقدير اتجاه الفعل بحسب أصالتها في الصدور عن الذات الجمعية، وبقدرتها على رصد التوترات العميقة التي توجه الظواهر المنجزة([23]). وتجري عملية الانتخاب الحضاري بطيئة الحركة في التاريخ، خفية اعتباطية في الظاهر، جوهرية في العمق.. وتستقرّ في النهاية من مجمل التجارب عناصرُ تشكّل فيما بينها صورة كلية هي النوع الأدبي الجدير بالانتساب إلى تلك الحضارة أو هذه المرحلة.
إن الانتخاب الحضاري من مجمل التجارب النصية الفردية لا يحصل عن طريق التحليل والاستقراء والاستنباط، بل هو عملية قهرية تاريخية تُنجز خارج سياق الأفراد والمؤسسات، إذ تتكون ملامح النوع الواحد وتستقرّ هويته عن طريق "سلسلة النصوص الفائقة" التي يشجر بينها ملامح متماثلة، ونسب يأبى أن ينقطع، وقوة خلق متحفزة للوجود في أي وليد جديد([24]). وتنشأ سلطة النوع ويتحقق تمايزه الحي التام من التواصل المباشر بالنص، في حين يستمد شرعيته وحقوق استقلاله النوعي من خصوصية وظيفته الحضارية، واقتضاء المرحلة التاريخية لمكوناته. فتتآزر السلطتان الداخلية والخارجية في تحقيق ذاتية النوع وضمان استمراره وفرض تمايزه.
وإذن، ليس الجوهري في النوع الأدبي - بهذه الرؤيا - ما يحقق للنوع كمالاً مثاليًا داخليًا، مجردًا عن الوصف والشرط، مستقلاً عن أي مؤثرات خارجية يفرضها المحيط، لأن النوع كائن تاريخي وظيفي، لا صيغة لغوية متعالية، وهو يخضع للشروط التاريخية ويتأثر بها ويتحرك بسلطانها ويتشكل بإرادتها، والذوق الجمالي جزء من الدوافع الحضارية المكونة لخصوصية النوع وشكلانيته وقوانينه الداخلية.
قلنا إن الحضارة العربية الإسلامية حضارة "نص"، وأنها ذات نزوع جماعي يجعلها تقدم "الإجماع" على القياس/الاجتهاد، وبإيثارها المنفعة في كل شأن، صار للنوع الأدبي كيان ذو هيبة عُبِّر عنه في سياق الشعر قديمًا بـ"عمود الشعر" الذي وجد مصطفى ناصف أنه يحاكي "عمود الدين"([25]) في سلطته واستقطابه وإلزامه. ضمن هذه المقيِّدات المتراكبة قد يبدو أن الإبداع قد كُمِّم وخُنق، ولم يعد أمام الأديب من المجال إلا أن يقول معادًا من القول مكرورا([26])، وأن ينضبط بحدود النصوص السابقة فلا تطوير ولا معاصرة، وسجن للحاضر في الماضي!! ليس الأمر على هذه الحال، ذلك أن سلطة النص هي سلطة متسربة داخل النفس عن طريق حفظ النصوص وتمثّلها والاتّصال الطويل بها، وليست إكراهًا من الخارج بمعايير مجردة، أو قوانين مفرغة من المعنى. إن الانزياح المطلوب لإحداث الإثارة يعني الانحراف عن المألوف، وتغدو الاستخدامات البليغة والانزياحات السابقة، مع التداول، من المألوفات، ولن يحدث الأديب الصدمة الجمالية ما لم يمارس الانزياح. هذا شيء كنا قد وقفنا عنده مسبقًا، بيد أن النوع المتحقق في النصوص هو طريقة في الأداء تحقق الغايات الحضارية، ويجوز الانزياح داخلها في الأساليب والمعاني ما لم يتهدد الخصائص المبررة لوجود النوع حضاريًا، ولهذا كان الشاعر المبتدئ يُوجَّه إلى حفظ الأشعار ونسيانها، لكي يلتقط طريقتها ويخرج من إسارها في الوقت نفسه. وقد مارس الأدباء العرب هذه الإمكانية المتاحة للتجديد في النوع وتطويره بتأثير المتغيرات الثقافية والتاريخية العميقة التي فُرضت على الحياة العربية بظهور الإسلام، والغنى الحضاري الشامل في المفاهيم والمواقف والمظاهر. فتولّد عن هذا اتجاهات جديدة وتيارات متعارضة، وأنواع غير مسبوقة، وتبدلت بعض الخصائص النوعية في الأنواع القديمة.. كل ذلك بتأثير المحيط التاريخي الثقافي، وعلى الرغم من الحضور الصلب للعمود النوعي الذي يستمد هيبته من الماضي؛ موئل العرب الذي يهرعون إليه في مواجهة عصبية الأعراق المسلمة الأخرى.
2- سلطة التلقي:
لقد ظل الأدباء فترةَ استقرار الثقافة العربية وسيادتها، مشرّعين للنوع الأدبي وسدنة له في الوقت نفسه؛ بما امتلكوا من ذوات أصيلة تمتزج بخلاصة النفس العربية، وتشفّ عن معدنها، وتنضح من معينها الرائق. ومع بداية عصر التدوين والتقنين اصطدم الأدباء باللغويين الذين حاولوا أن يسلبوا الأولين صلاحياتهم، بيد أنهم لم يفلحوا([27])، في حين أن نقاد العرب بحصافتهم القوية وحساسيتهم الصافية وعوا حدود مسؤوليتهم بوصفهم مفسرين للنص، وشارحين له بالنص أيضًا، ولم يتجاوز دورهم هذا الحد ما كان تواصل الأديب بالنص مباشرة دون وسيط. فلما صرنا إلى مرحلة الازدواج الثقافي احتاج الأدباء إلى ذلك الوسيط!! فنهض النقاد يذللون عوائق التواصل بالنص، ويرسون قواعد التمثل النوعي، ولم تسبب هذه القوانين عرقلة لمسيرة الأدب إلا عندما فُقدت البديهة وغلبت الصنعة، فتراجعت سلطة النص موسعة المجال لسلطة الشرّاح، وبدأ الأدب يغرق في التقاليد، ويؤسر في قمقم الأنواع وأعرافها، وخضع الأدباء للنقاد، وصارت الأعراف النوعية ضبطًا لما قد يكون، وليس وصفًا لما هو كائن فقط.
لم يتدخل النقاد العرب في تشكيل الأنواع الأدبية ولا في إكسابها صفة المهابة التي لازمتها، بل إنهم ـ وفيما يُعرَض منهم معرض الذم ـ لم يفرّقوا في كثير من أحكامهم النقدية بين نوع أدبي وآخر، وتعاملوا مع الأنواع على أنها "كلام" فمنه حسن ومنه غير ذلك، بل إنهم ما كانوا يجدون غضاضة في الكلام على حل المنظوم أو نظم المنثور! ووجهوا جلّ نشاطهم إلى حماية الأصول الأدبية والذوقية العامة التي قام عليها الأدب عامة بأنواعه المختلفة وتقريرها، باعتبار تلك الأصول مظاهر الاستجابة للضرورة الحضارية، والحدود اللازمة للاستثمار المعرفي للأدب.
إن المدقق في التاريخ الأدبي يلاحظ أن الأدب قد بلغ فورته وذروة تطوره وأسلم نفسه إلى أقصى إمكانات تنوعه وقدم أفضل مبدعيه، في الوقت الذي بدأ فيه النقد بالتبلور والنضج، وكأن ذلك يبرئ النقد صراحة من التدخل في تحديد مسيرة الأدب، وفرض نمط العمود عليه، ويؤكد من ناحية ثانية أن الذهنية المعيارية التي اتخذت من الماضي العربي نموذجًا ومثالاً ـ وهو النموذج الذي تحققت فيه الطموحات الحضارية ـ قد عبرت عن نفسها في فكرة العمود التي حفظت تمايز الأنواع الأدبية، وصانتها من الذوبان، على الرغم من أن الممارسة الذوقية والتلقي الجمالي كان يميل إلى تغييب الحدود بين الأنواع وتجاوزها، والتعامل مع النص بمعيار الجودة والجمال أيًا كان نوعه، وبعيدًا عن الإجحاف بحق النص في سبيل التصنيف القَبْلي، وكان النقد العربي هو التعبير العلمي والنظري عن هذا الذوق وذاك الميل. ولهذا فإن عناية النقاد كانت مصروفة إلى جنس "الكلام" عامة على أنه موضع البحث في الجمالية والبلاغة، دون اعتبار شرطي للنوع، إلا ما كان فيه النوع هو مجال المدارسة، فلا عجب إذن أن تشتمل شواهدهم النقدية على المحاورات والكلام المتداول بين الناس، ما دامت الثقافة العربية هي المسيطرة في الحياة العامة([28]).
لا ينفي هذا الكلام التوجهات الخفية والمعلنة التي تتعصب لنوع معين دون سائر الأنواع، إما بدوافع ذوقية محضة([29])، وإما بدوافع جماعية تأتّت من الأهمية الحضارية لبعض الأنواع دون غيرها؛ وهو ما حازه الشعر غير منافَس فترة عريضة من الزمن، وعليه كان أغلب العرب. فلما برز النثر ندًا شديدًا لاقتضاء المرحلة الحضارية له، ظهر له متعصبون وحجزت المنافسة بين النوعين مساحة عريضة من النشاط النقدي والأدبي. بيد أن "المواجهة" مع النص مباشرة كانت تسلب منهم هذا التحيز المسبق وتجعلهم يدينون لموضع البلاغة منه مهما كان جنسه! وهذا يبرز معنى خاصًا وهو أن التجربة النوعية التراثية تختلف اختلافًا بينًا في مستوى "التلقي" عنها في مستوى "الإبداع"، وأن النوع يحدد آفاق حركة المبدع، في حين أن الجمال يشكل آفاق مقصد المتلقي، وأن الأنواع لا تتدخل في التقويم الجمالي والأدبي للنص([30]).
3- التمثّل النوعي بين الإبداع والتلقي (المقام الأصلي، والمقام الطارئ):
وكما أن الخصائص النوعية تنتقل إلى الأديب عبر النصوص، فإنها كذلك تستقر عند المتلقين عبرها، وتُشيع ذوقًا عامًا يستقبل النص وحدةً نوعيةً تتوقع تكوينًا خاصًا ومعمارية مألوفة، وهو ما يسمى بـ"أفق التوقع" النوعي الذي يستند إليه المتلقي في تحقيق أعلى درجات التواصل بالنص، وكسر أفق التوقع قد يعرقل عملية التلقي، كما أنه من الممكن أن يمنح النص طاقة عالية من التأثير، وإنما يتحدد ذلك بحسب المقام وموضع الكسر ودرجته، فإذا كان كسر أفق التوقع في المستوى الدلالي والتركيبي مطلوبًا ليحدث التأثير والدهشة الناجمين عن الانزياح، فإن كسر أفق التوقع النوعي برز في بعض الأحيان طريقًا ممكنًا لإحداث هذه الدهشة، وقد عرفنا الأثر العجيب الذي تركته طريقة زياد بن أبي سفيان في التخلي عن عرف البسملة في بداية خطبته الشهيرة بالبتراء([31]). وقد يتحول الكسر في أفق التوقع النوعي إلى عرف إذا وجد استجابة ثقافية واستدعاء تاريخيًا، وبذلك يتدخل في تطوير النوع وتوجيه حركته، فقد آثر بعض الشعراء التخلي عن عرف الطلل إلى الافتتاح بالخمريات لمـّا آلت حياة العرب إلى الاستقرار ولم تعد الرحلة من مفردات تجارب حياتهم المعيشة. بيد أننا ما زلنا هنا في إطار الممارسة الإبداعية لا النقدية؛ أي إن النصوص هي التي توجه النصوص اللاحقة والحركة النوعية، لا القوانين والأعراف.
إن البيئة الثقافية المشتركة تنشّط التداول الاجتماعي للأدب، وتساعد في ترسيخ الأنواع الأدبية، وتمثّلها في الإبداع الأدبي وتذوقه، باعتبار النوع الأدبي مجموعة من العلامات المشتركة التي يتكئ عليها الإبداع في تنظيم العمل الأدبي، ويتوقع المتلقي أن تهديه في التفاعل مع النص باعتبارها رموزًا قابلة للفكّ عن طريق التداول المشترك للنماذج النوعية المشتركة.
وتختلف المؤثرات النوعية الموجِّهة للعمل الأدبي بحسب المقام وبحسب المتلقي، فالسياق الأصلي والمتلقي المباشر يستقطبان جلّ الجهد الأدبي ويستوليان على ذهن المبدع ويوجهان اختياراته من عموم إمكانات النوع في كل جزئية من جزئيات العمل الأدبي المتكامل، بيد أن الرابطة تتهلهل بين المبدع والمتلقي، بين العمل والنوع، بحسب خصوصية السياق الثاني الذي يتم توظيف النص فيه، فقد يتم توظيف جزء من النص في سياق أدبي تهذيبي أو علمي أو لغوي أو جدلي.. كما أن الفجوة الزمنية تلعب دورًا هامًا في الانحراف بالنص عن التمثل النموذجي للنوع الأدبي الذي ينتمي إليه النص، وتتحدد درجة حدة هذا الانحراف بدرجة المفارقة في معطيات الحياة المتغيرة، وبدرجة المشترك الثقافي والتداول الأدبي للنصوص الممثلة لذات النوع.
الأنواع الأدبية التراثية بين التداخل والتمايز:
تشترك الأنواع الأدبية فيما بينها بخصائص عامة استمدتها من انتمائها إلى أصل واحد هو "الأدب" الذي مثلت "البلاغة" قمته وطموح أنواعه على اختلافها. وإذا أردنا أن نتمثل العناصر التي عزت العرب البلاغة إليها، فإننا واجدون مجموعة عناصر تخدم الغاية الأصيلة للنشاط الأدبي عند العرب، ألا وهي "المعرفة الحية". وأهم هذه العناصر وأجلها "الإيجاز" حتى لقد جعلوا "البلاغةَ الإيجاز"، والإيجاز في الحقيقة ملمح ذهني ولغوي في الوقت نفسه، إذ إنه اقتصاد لغوي يعول على غنى ذهني ومشترك ثقافي. ولهذا فإن العرب قد جعلت العنصر الثاني في المنظومة البلاغية هو "الوضوح"، باعتباره ضابطًا للإيجاز بحدود ذلك المشترك وأفق ذاك الغنى. وكأن ذاك مما يقال عنه عادة "السهل الممتنع"! إن الإيجاز كان وراء تعلق العرب بوحدة البيت لا بوحدة القصيدة، لأنه أدعى إلى تملك الذاكرة مع تمام المعنى والقيمة، وجعلوا غاية همهم أبيات الأمثال التي قيل فيها "وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل"([32]). ويبدو أن الإيجاز كان يغذي لدى العرب ميلاً نفسيًا وجماليًا إلى التنويع، وكان تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة استجابة له. ومع أن الأنواع النثرية هي معرض التفصيل والإطناب، فإن الإيجاز استطاع أن يغلب عليها في مرحلة الثقافة الشفوية قبل الإسلام، فوسم جملهم بالاستقلال والافتقار إلى الالتحام الداخلي والتنامي المنطقي، حتى لتستطيع أن تستقل بأية جملة من دون أن تتمحّل أو تجور على المعنى([33]). إن هذا الميل الطاغي للإيجاز حمل بعض الدارسين على الاعتقاد بقِصَر النفَس العربي الذي لم يسمح بظهور نوع الملحمة والرواية فيهم([34]) حتى مع انتشار النمط الكتابي للمعرفة، فرواية "ألف ليلة وليلة" على طولها هي مجموعة من القصص القصيرة قابلة للاجتزاء من دون أن يخلّ ذلك بجسد الرواية الأصلية أو باستقلال القصة المجزوءة.
كما كان الوضوح، والقصد إلى الإفهام والتوصيل عبر التأثير؛ الباعثَ الجوهري إلى إيثار الصحة والمقاربة في التشبيه، والحسية في المحاكاة، لتقريب المعنى أو الشيء إلى الذهن، لا الإيغال به في متاهات الظنّ والخيال، وما ذاك إلا لضمان ولاء النص الأدبي للغاية المعرفية وتطويع اللذة للمنفعة.
وتتكامل عناصر البلاغة بـ"الموسيقى"، أو الولع بالإيقاع الناجم عن التقابل والتماثل في الحروف، والتوازن في الجمل بانتظام يحدث تناغمًا في الكلام، ومعلوم أن النص الموقّع أعلق بالأذن وأقرب إلى النفس، تهتز له وتتحرك به. وكان أن بلغ الميل الموسيقي عند العرب كماله في الشعر، بيد أن نثرهم قد أخذ قسطًا وافرًا من التوقيع الموسيقي عبر السجع والازدواج وتوازن الجمل والعبارات.
ويبقى عنصر أخير ضابط يتدخل في تحديد نِسَب العناصر السابقة؛ هو المقام أو السياق، فإذا كان يحسن الإيجاز في مواضع معينة فإن الإطالة في غير خطل ولا إملال، خيار محتمل أو واجب في مواضع لا يغني فيها غيرها، وكذلك قل في الوضوح الباهر لا سيما في خطاب الخاصة وذوي الفهم الدقيق. فالمقام هو عنصر الضبط في الإيقاع العام للقول الأدبي.
استطاع تلاحم هذه العناصر (الإيجاز، الوضوح، الإيقاع، المقام) أن يقدم صورة للتكوين اللغوي الأدبي قادرة على النهوض بضرورات المعرفة الحية المستلزِمة لوصول المعنى واضحًا مفهومًا في أوجز مساحة وأضبط إيقاع، ما يسمح للنفس بالتحرك للفعل، والتخزين في الذاكرة، والتداول بالرواية. ولعل هذه العناصر تكوّن مجتمعة عمود الأدب العربي الذي تقوم عليه أنواعه كلها.
ومع ذلك فإن الأنواع قد تمايزت فيما بينها ضمن هذه المساحة المشتركة، وتفاوت أداؤها بحسب خصائصها وتقنياتها النوعية، ولم تكن واحدة في درجة تمثلها لهذه الأصول، وهذا ما رفع بعضها فوق بعض، ولأجله فاز الشعر بلقب "ديوان العرب". فإذا حاولنا استنطاق التراث النقدي في الأسباب التي جعلت الشعر فن العرب الأول، فإننا واجدون أن أكثر الآراء تتجه إلى الوزن، حتى إن قدامة لما راح يلتمس للشعر تعريفًا لم يجد كما يقول: "أبلغ ولا أوجز ـ مع تمام الدلالة ـ من أن يقال فيه: إنه قول موزون مقفى يدل على معنى"([35]). فردّ جلّ إمكانات الشعر وخصائصه إلى الوزن والتقفية، مع ما في الشعر من عناصر جوهرية لم يتطرق إليها ولم يعرها اعتبارًا!! إن الميزة التي تحلى بها الشعر وفاق بها الأنواع الأخرى لا تتعلق بقيمة النص الجمالية، لأن هذه القيمة مشتركة في الأنواع الأدبية كلها أولاً، ولأنها غير قادرة على الصمود أمام عنصر الفناء وحدود الزمان والمكان وحدها مهما بلغت من الإبداع ثانيًا، في حين أن البناء الموسيقي المتميز للشعر العربي، وطبيعته النمطية الناجمة عن توازن الأشطر والأبيات، وتواتر القافية والروي، قد وفّر إمكانية عالية لحفظ النص وتملكه في الذات، ووسّع فرص صونه من عاديات الزمن، ومدّ آفاق نشره وترويجه([36]). لهذه الخاصية الفريدة تعلق العرب بالشعر، فجعلوه خزانة قيمهم، ومعرضًا لفكرهم، وأداة لحفظ تراثهم، وتخليد وجودهم المادي والمعنوي، أفرادًا وجماعات. يقول الجاحظ: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها"([37]). ويضيف ابن رشيق: "وكان الكلام كله منثورًا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسُمحائها الأجواد، لتهُزّ أنفسها إلى الكرم، وتدلّ أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلمّا تمّ لهم وزنه سموه شعرًا؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا"([38]). وهذا يعيدنا من جديد إلى غاية المعرفة الحية القابلة للتحول إلى فعل، وما يقتضيه من ارتباط الشعر كأي نوع أدبي بالمعرفة والمعنى لا بالخيال والعاطفة، وقد جعل ابن رشيق "الشعر" من الفطنة، وكذلك مِن قبله أنهى قدامة الشعر إلى المعنى لا إلى العاطفة!! ويسند هذا الفهم أن الأصل اللغوي للشعر يدل على العلم لا على الشعور إلا على سبيل التجوز([39]).
إذن استطاع الوزن أن يحسم التنافس النوعي لصالح الشعر، فكان أبرزَ عناصره النوعية الخارجية وأجلها، بيد أن الشعر امتلك عنصرًا داخليًا جوهريًا رفع قيمة النص الشعري المعنوية في مقابل الأنواع الأخرى، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا العنصر هو المجاز أو المحاكاة أو الخيال.. والواقع أن هذا العنصر مع أهميته، فإنه لم يكن ذلك العنصر الجوهري، لأن المجاز عنصر مشترك في الأنواع كلها أيضًا، وإنما يكثر في الشعر، وهو ـ أي المجاز ـ أحد مصادر التأثير الكثيرة التي يعول عليها الأدب في تحقيق التوصيل، وقد قلنا من قبل إن التأثير يتأتى عن طريق الانزياح، سواء في العلاقات المعنوية أو التركيبية.. ولهذا تجد النصوص الشعرية تحفل بأنماط تخلو من المجاز، وإنما هي طرق فريدة في "النظم" والتركيب وتأليف الكلام، وهذا ما نوه به عبد القادر الجرجاني في نظريته المتعلقة بالنظم. بل إننا نزيد على ذلك فنقول إن المجاز خاصية لغوية عامة بنيت عليها لغة العرب، يقول ابن رشيق: "العرب كثيرًا ما تستعمل المجاز، وتعدّه من مفاخر كلامها؛ فإنه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات"([40])، أي هو عنصر بلاغي عام، ولغوي شائع. وهذا يستدعي أن نستبعد من ذهننا اعتبارات معاصرة تصنف الاستخدامات اللغوية على أن منها الشعري ومنها الخطابي، وتسم تلك التي تعتمد الانزياح التركيبي عن طريق الإنشاء بأنها طرق أداء خطابية، وتلك الموسومة بالمجاز بأنها طرق أداء شعرية! هذا التصنيف لا ينتمي إلى مفاهيم العرب اللغوية والجمالية، إذ إن بعض الأغراض الشعرية، لا سيما الحماسة، تقوم على الإنشاء تحديدًا دون سائر طرق الخطاب، يقول حازم: "واستعمال الإقناعات في الأقاويل الشعرية سائغ، إذا كان ذلك على جهة الإلماع في الموضع بعد الموضع، كما أن التخاييل، سائغ استعمالها في الأقاويل الخطابية، في الموضع بعد الموضع. وإنما ساغ لكليهما أن يستعمل يسيرًا، فيما تقوم به الأخرى، لأن الغرض في الصناعتين واحد، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام في النفوس لتتأثر لمقتضاه. فكانت الصناعتان متواخيتين لأجل اتفاق المقصد والغرض فيهما. فلذلك ساغ للشاعر أن يخطب، لكن في الأقل من كلامه، وللخطيب أن يشعر في الأقل من كلامه"([41]). وإذا كان الإقناع العقلي أصلاً في النثر، فإنه في الشعر لون ممكن، ورد في شعر العرب القدماء كما في شعر المحدثين أمثال أبي تمام والمتنبي، بل إن طائفة لا يستهان بها من الفنون البيانية ترجع إلى الذهن لا إلى الخيال؛ كصحة التقسيم والتفسير وحسن التعليل..
ينتهي بنا هذا العرض إلى أنه ما دام التأثير هو الغاية التي لأجلها تدخل المغايرة على البنية اللغوية لفظًا ومعنى، فبأي شيء أحدثتَ ذلك التأثير فهو البلاغة في ذلك الموضع، سواء كان شعرًا أو نثرًا، مع أن الغالب على الشعر استعمال المجاز، والغالب على النثر استعمال الإقناع. وبما أن هذه العناصر مشتركة في الأنواع الأدبية فإنها ليست العنصر الحاسم الذي ماز داخليًا الشعر من سائر الأنواع ومنحه الإمكانات الفائقة في تمثيل الحياة العربية وقيمها. إن تلك الإمكانية الفذة الفريدة التي استقل بها الشعر هي بناء النماذج وصياغة المثل وتجسيد القيم، عبر تجاوز المادة الواقعية والحقيقة الموضوعية إلى ما يسمى بأعذب الكذب، والمبالغة القادرة على تنزيه القيمة من شوائب النقص والنسبية، وهذا ما جعلهم يلتذون بالمبالغة ويطلبونها في غير سرف محيل، ويقبلون الكذب الفني وإن فارق الحقيقة وجمّل الواقع أو زيفه، فصار المدخل غير الأخلاقي مفضيًا إلى الأخلاق في معادلة متوازنة، تجاوز من خلالها الشعر العربي النقص الطبيعي في التمثل القيمي إلى الكمال المثالي. وهذا ما جعل العرب تعتبر بعض الأغراض الشعرية أخطر في معيارها من بعض، فقدمت الفخر والمديح والهجاء والرثاء، طالما أن هذه الأنواع تجسد القيم العربية في حال الإيجاب والسلب، وتحببها إلى النفس بنقائها غير المشوب، وتخلق عبر المبالغة في المتلقي التحفز للمنافسة في مجال القيمة التي لأجلها يُمدَح ويُذَمّ، وبها يُفاخَر أو منها يُستخزى. قال معاوية لابنه: "يا بني اروِ الشعر وتخلّقْ به، فلقد هممتُ يوم صفين بالفرار مراتٍ، فما ردّني عن ذلك إلا قول ابن الإطنابة:
أبت لي همّتي وأبى بلائي
وإقدامي على المكروه نفسي
لأدفع عن مكارمَ صالحات
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وضربي هامة البطل المُشيح
وأحمي بعدُ عن عِرضٍ صحيح"([42])
لا ندري مدى التطابق في مجال الفخر والزهو بين القول والحقيقة، ولكن الذي يعنينا هو أن عرض القيمة على سبيل الفخر والمباهاة يحمل في داخله دوافع الحث والتنافس والاستفزاز للتفوق أو المماثلة، وهذا عين الغاية التي يصدر عنها مفهوم المعرفة الحية. إذن فالقدرة على تجسيد القيم وتمثيل المفاهيم هي تناول لما هو ممكن وليس لما هو كائن شرطًا، وتجاوز للمادة الموضوعية للأدب إلى المفهوم المتحقق بها أو من خلالها. وبهذه الآلية استطاع الشعر أن يمدّ في عمره الحضاري بعد أن سقط شعراء القرون اللاحقة في التكسب المخزي والتوسل المذل، ذلك أنه سمح بإمكانية فصل الشعر عن الشاعر، ووسع من احتمالات توظيف النص الشعري في سياقات مغايرة لطبيعة سياقه الأصلي مهما كان حظها من الصدق أو الكذب، ولا سيما في الشؤون التهذيبية والأخلاقية.
كان الشاعر قد نال مكانته الاجتماعية من خطورة النوع الشعري في الحياة العربية، بيد أن الخطابة قد اكتسبت مكانتها الثقافية والأدبية من أنها كلام السادة وأصحاب الشأن والمشورة والرأي في الأمة([43])، وإنما تقال في كل جليل وعظيم؛ في الصلح والديات، والإعذار والإنذار، والمفاخرة والمنافرة.. عرفها العرب في جاهليتهم وتركوا فيها آثارًا خالدة، ومع أهميتها وعظيم شأنها فإنها لم تستطع أن تضارع الشعر أو تنافسه، فقد كان الشاعر "في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر"([44])، ولكن ملامحها لم تكتمل وتنضج إلا مع الإسلام حيث استوت في صورتها النموذجية، وصار لها عمودها الخاص، واضح الملامح، موقر التقاليد. وقد حازت الخطابة تلك الهيبة بدخولها ركنًا أساسيًا في كثير من العبادات الدينية، وشعيرة لازمة في معظم من الممارسات الاجتماعية، فصارت الآثار النبوية وخطب أعلام الخلافة الإسلامية، مرجعًا في تشكيل خصوصية النوع الخطابي، وترسيم طرق الأداء المستقبلية. وإن فتشت في كتب الأدب عن مؤطرات لهذا النوع خاصة، فإن غاية ما يمكن أن تعثر عليه هو ضرورة الالتزام بافتتاح الخطبة بالبسملة والتحميد، وإلا سميت البتراء، وأفضلية تطعيمها بشيء من القرآن والسنة، وإلا سميت الشوهاء([45]). هذا من حيث بناء الخطبة العام وهيكليتها الخارجية، أما من حيث المعاني والألفاظ فهي النصائح المتداولة بالحرص على الإفهام وترك التقعر، ومراعاة طبقات المستمعين ومخاطبة كل قوم بما يناسبهم، وأن يدل صدر الكلام على غايته، وإذا كان الإيجاز مفضلاً عند العرب في كل سياق فإن الخطابة تسمح بالإطالة في الموضع الذي يقتضيها وإلا دخل الكلام في السرف والهذر الذي يعاب([46]). ويكثر ورود السجع والازدواج في الخطبة فيكسبها هديرًا صاخبًا يساعد على التأثير في المخاطبين ويزيد حماستهم، لا سيما أن الخطابة فن شفوي يقدم عبر إيقاع أصواته، ويعتمد على تناغم كلماته وانسجام عباراته، ويقتضي التأثير المباشر في السامعين. كما تلعب مهارات الخطيب الذاتية دورًا أساسيًا في نجاح الخطبة أو فشلها، وهذا ما جعل النقاد يتوسعون في الكلام على صفات الخطيب، وحركاته، وشروط الصوت، وطريقة الأداء..
وإذن فليس تمتاز الخطابة من الأنواع الأخرى إلا في إطارها الخارجي، ووجوبها في بعض المقامات دون سائر الأنواع، بالإضافة إلى أن تحررها من الوزن يمنحها رحابة تسمح لها بأن تعالج قضايا يعجز الشعر عنها. أما في بنية الخطبة الداخلية فهي خاضعة - ككل مسالك القول - لقوانين البلاغة الأساسية، وللذوق الجمالي العام، وللتوجهات المعرفية النفعية المتأصلة.
قيلت القصص عند العرب لتُسمع وتروى لا لتكتب، فهي في الأصل نوع شفوي يساق لغرض تاريخي أو تهذيبي، ويروي عن تجارب حقيقية وأشخاص معروفين، وعلى الرغم من تلاعب خيال القصاص بتفاصيل الحكاية أحيانًا، وإدخال الزيادة والنقص عليها، فإن الخرافات أو الأساطير قليلة في تراث العرب، ليس هذا من ضحالة في الخيال، ولكن لواقعية في الذهنية واعتدال في المزاج ورغبة عن الإسراف في ملاحقة الوهم والسراب، ولأجل هذا غلب على القصص والحكايا العربية الطابع التاريخي فكانت تروّس بالأسانيد، ويُعتنى في مطلعها بسرد أسماء الرجال. وقد مدت واقعية القص في مساحة التأثير التهذيبي لها، على اعتبار أن الشخصيات تقدم نماذج حية للمحاكاة وأسوة للاتباع دون قدرات خارقة مجاوزة لحدود الطاقة البشرية، ما يجعل عملية التمثل ممكنة، ويسلب عنها الاستحالة الملازمة للمحاكاة الأسطورية والخيالية، وهذا فرع آخر للمعرفة الحية يعرف بالتعليم "بالأسوة الحسنة" والاقتداء بالأخيار، وإنما رويت القصص في القرآن لتحقيق هذا الغرض، ولأجل الاتباع حُفظت السيرة النبوية، ورُويت مواقف أعلام الأمة. وبذلك تُقدَّم القيم متجسدة في نماذج بشرية حية وتجارب معيشة تمتصّ التصور بمثالية القيم وتمنّعها على التطبيق والمحاكاة.
وبما أن هذه القصص تقال لتروى وتتداول فقد غلب عليها الإيجاز والإحكام في الصياغة، والتغاضي عن التفاصيل، ومع إيثار شيء من السجع أحيانًا. أما بناؤها العام فلا يخضع لأعراف ولا لتقاليد وهو يقاد بزمام الراوي يوجهه أنى شاء وبحسب المهارات التي يمتلكها للتأثير في الآخرين، وإن كان يخضع للسياق الذي توظف فيه القصة أو الخبر، فيختلف الأسلوب بين القصة التاريخية والقصة الوعظية أو التي تقال للتفكّه والتملّح.
أما الأمثال فهي تدخل في كل الأنواع لأنها تستمد مادتها منها، وتمثل قمتها وخلاصتها، وتأتي في أقصى صور التكثيف والإيجاز، مع بعد رمزي يستند إلى ثقافة عامة مشتركة، إذ إن شرطه الإيجاز الشديد المفهوم إحالة أو أصالة؛ أي بالاستناد إلى غيره وبالقياس عليه؛ خبر مشهور، أو قصة معروفة، أو مكتف بنفسه في الدلالة على معناه. والإيجاز هنا مضبوط بالفهم أيضًا. والأمثال في حد ذاتها تمثل موقفًا تقويميًا جماعيًا، وانتخابًا ذوقيًا من مجمل الإنتاج الأدبي أو من غيره، يقول الفارابي: والمثل "من أبلغ الحكمة؛ لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصّر في الجودة، أو غير مبالِغ في بلوغ المدى في النفاسة"[47]. وهو يعبر عن ذهنية الأمة أو واقعها أو طموحها، وإنما يطير من الأمثال أحكمها معاني، وأصدقها في التعبير عن الحال، في أوجز عبارة. إذن فالمثل يتقاطع مع كل الأنواع لأن منها مادته، ويمثل ذروتها لجدارته بتحقيق مفهوم المعرفة الحية الملازمة للنفس، الحاثّة على الفعل، الخالدة بتجاوزها لحدود الزمان والمكان، وفوزها بالإجماع. إن معايير البلاغة العربية كانت تُعدّ النصوص وتحثها لتصير أمثالاً، فالأمثال هي خلاصة النتاج الأدبي، وهي أوفي الأنواع بمتطلبات المعرفة الحية، وفي كل الأنواع استعداد لهذا التحول، مع تفاوت في النصوص لا في الأنواع، لأن الإيجاز كما قلنا أصل أدبي وليس شأنًا نوعيًا، وقد قالوا "وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل"([48]).
بقي أن نقول إنه إذا كانت الأنواع تتداخل وتتّحد في المستوى المشترك للأداء اللغوي الذي يخضع لمعايير البلاغة العامة وللمبررات الحضارية للظاهرة الأدبية، فإن هناك أشكالاً أخرى للتداخل، كالتداخل الموضوعي والتقني، فإننا نجد نماذج كثيرة للشعر القصصي الذي تلتحم فيه التقنيات السردية بالتقنيات الشعرية دون أن يخلّ هذا الالتحام بالوفاء بمتطلبات النوعين معًا، بما أنهما يستندان إلى ركائز أساسية مشتركة. وكثيرًا ما ينظم الشعر في الأمثال، على أن تأتي عرضًا ولا تكثر، ومع أن الأمثال غاية الأشعار كما قلنا، فإنما عاب شعرَ صالح بن عبد القدوس عندهم أنه جعله كله في الأمثال([49]). ويشتغل الشعر على ما تشتغل عليه الخطابة ويستعين بتقنياتها، وكذلك الخطابة، وقد رأينا أن الحماسة غرض أساسي في الشعر، والإقناع يعرض فيه، كما تعرض المجازات في أحيان كثيرة في الخطب.
بيد أن هناك شكلاً آخر للتداخل أكثر وضوحًا وأقل تعالقًا وأقوى قصدية، هو "التطعيم"، أي تطعيم نوع معين بنوع آخر محتفظًا بحرفيته وخصائصه كلها، للاستعانة بمؤثرات التنويع أولاً وللاتكاء على خصائص أنواع أخرى تقتضيها طبيعة الخطاب أو الرسالة.
ويبدو أن التنويع عن طريق التطعيم آلية إيجابية تساعد في مدّ مساحات التأثير والاستئثار بانتباه السامع أو القارئ، والغالب أن يطعم النوع الأضعف بالنوع الأقوى، فالشعر لا يطعم عادة بغيره إلا ما جد مع ضعف الشعر في القرون اللاحقة، فصار الشعراء يقدمون لأشعارهم بشيء من النثر، وغالبًا ما تطعم الخطب بالأشعار عدا عن تطعيمها بآيات القرآن الكريم، والحديث النبوي، كما أن القصّاص، لرغبتهم في تنويع مادة قصصهم وتطعيمها بشيء من الشعر، لجؤوا أحيانًا إلى وضع أشعار على لسان الجن والحيوان فوق ما وضعوه على لسان الإنسان، لما علموا من مكانة الشعر في القلوب([50]).
بين صلف العمود وجبروت التاريخ:
إنما كان الشعر والخطابة والقصص والأمثال هي الأنواع الأساسية التي عرفها العرب في جاهليتهم، بيد أن خصوبة الحياة المتولدة مع ظهور الإسلام والانفتاح الحضاري حفزا أنواعًا جديدة للظهور، بل قدّما للأنواع القديمة خيارات لم تكن في حسبانها.
فكيف سمح صلف العمود بانفلات الحبل واستطارة التطوير؟!! الحقيقة أنه إذا كان النوع قد اكتسب ملامح عموده من المعطيات والشروط الحضارية، فإن كثيرًا من تلك المعطيات ذات طبيعة تاريخية متغيرة ولا يثبت منها إلا الجوهري والضروري، ومع تسارع حركة الزمن وتبدل المعطيات التاريخية يبدأ التجاذب ويشتدّ بين التاريخ بجبروته وصيرورته الهدارة، والعمود بمناعته وصلفه، ويقاوم العمود ويصمد بمقدار شفافيته عن الثوابت والأصول، وباستناده إلى إرادة الجماعة، ويعنو للتاريخ والتطوير والحركة بمدى المرونة والنسبية اللتين تمنحهما إمكاناته، وبمدى توافر ذوات مبدعة شديدة الأصالة متينة الإرادة، حساسة للتوترات التاريخية، مستجيبة لحاجات العصر.
إن الخلاصات التي انتهى إليها الكلام في الفقرات المتقدمة يفترض أن للأدب عامة عمودًا تخضع له أنواعه كلها، وهو يمثل الأصول المشتركة التي قلنا إنها تحقق الغاية الحضارية وتربط الأنواع بها. ومع ذلك فإن الأنواع تفاوتت فيما بينها في درجة وفائها بالغايات الحضارية بحسب خصائصها النوعية، ولم تكن كلها سواء في حيازتها على عمود نوعي يصل في احترامه وقداسته أن يقرن بعمود الدين!
ولذلك فإن الشعر والخطابة هما النوعان اللذان استطاعا أن يحظيا برعاية "عمود"، لأنهما مثلا عنصرين جوهريين في الحضارة العربية الإسلامية، الأول منهما مثّل الأمة العربية، والثاني مثّل الدين الإسلامي، واستمدا ملامحهما وخصوصيتهما النوعية من ولائهما لهذين الأصلين ووفائهما بهما، ولأجل هذا كانت الجاهلية مصدر عمود الشعر، في حين أن الخطابة الإسلامية هي التي حددت مسار هذا النوع وضبطت عموده. أما الأنواع الأخرى فنستطيع أن نقول إنها أنواع وظيفية نفعية ذات طبيعة زمنية، تتحرك قوانينها النوعية بالمؤثرات التاريخية، ولا تمتلك، بوصفها أنواعًا أدبية، تلك القداسة التي تجعل لها خصوصيات غير زمنية، ما خلا تلك الخصوصيات التي صانها عمود الأدب ومثلت الأصل المشترك بين الأنواع كلها.
إن هذا الكلام لا يلغي استجابة الشعر والخطابة للمؤثرات التاريخية، ولكن تلك الاستجابة تحققت داخل أطر النوع نفسه، ومن خلال هامش تطوير متوافر داخل إمكانات ذلك النوع، فهو وإن كان يسمح بالتطوير والاستجابة للمستجدات التاريخية، فإن ذلك التطوير منضبط وشديد المقاومة إلا للضروري والجوهري.
لم يعرف العرب في جاهليتهم الكتابة ولم يشع فيهم القلم، فاتكؤوا على الذاكرة والحفظ يخطون في صدورهم ما يعجزون عن خطه في سطورهم، ويتناقلون المعرفة مشافهة عن طريق الرواية والسماع. في ظل هذه المرحلة الشفوية للمعرفة ولدت الأنواع الأدبية التقليدية، وقد عززت هذه المرحلةُ متطلبات المعرفة الحية، لـمّا كانت تشترط استجابات وتقنيات متماثلة. ولأجل هذا التداخل المتحقق في طبيعة المرحلة التاريخية والضرورات الحضارية المعرفية، استطاع الأدب لذلك الحين أن يطابق في هويته بين متطلبات الثابت والمتغير. فالإيجاز والموسيقى هما الخاصتان اللتان حققتا الاستجابة لشروط الثقافة الشفوية لما يمنحان من إمكانية ضبط المعرفة في الذاكرة، وتحصينها ضد الفناء، ومنحها فرصًا رحبة للانتشار والخلود. وهذا ما جعل الشعر أهم نوع أدبي على الإطلاق لأنه بالوزن تحديدًا وفر أمثل الظروف لتحقيق هذا الغرض.
عاش العرب قبل الإسلام عزلة ثقافية أخصبت نقاء لغويًا وأدبيًا وفكريًا مثّل القاعدة العريضة للمشترك الثقافي الذي عوّل عليه الأدب في بلوغ مآربه ضمن إمكانات خصائصه وضوابط أنواعه. بيد أن هذا الواقع كله قد تغير مع ظهور الإسلام، وانطلاق الثورة المعرفية والانفتاح الثقافي، ودخول العرب طورًا حضاريًا منظمًا ما عرفوه من قبل، وإشاعة ذوق جمالي مترف يميل إلى الزخرف والتأنق.
كان من نتائج الوضع الحضاري الجديد أن تراجعت الثقافة الشفوية تحت ضغط الثقافة الكتابية وانتشار التعليم والدخول في مرحلة التدوين، بالإضافة إلى أن تعدد الموارد الثقافية قد كسر النقاء العروبي، وأوجد حالة جديدة من الازدواجية الثقافية والطبقية المعرفية. هذه التطورات أدخلت العرب في طور من التحدي الحضاري والاستفزاز الوجودي زاد من حدته تعالي أصوات الشعوبية، ومنافسة الأقوام المسلمة من الأعراق الأخرى.
هذه العوامل مجتمعة في بعديها الإيجابي والسلبي، تقتضي أن تغير شيئًا ما في الخارطة الأدبية، وترسم تضاريس جديدة في جغرافيتها، وهذا ما كان.
فقد حمل الاستفزاز الحضاري وتحدي الشعوبية العربَ على التعلق بكل ما هو عربي والتعصب له، ولما كانت الجاهلية مصدر النقاء العربي فقد عكفوا عليها حفظًا وتدوينًا ليصونوها مصدرًا للتشريع الأدبي والحجّيّة اللغوية، وكان الشعر هو النوع الذي استأثر بجلّ جهدهم وعنايتهم بما أنه مظهر للتفوق العربي، ومادة لعلم العرب، ومعرض لفكرهم، وخزانة لقيمهم ولغتهم. وبهذه العملية زادوا من تماسك العمود الأدبي عامة، والشعري خاصة، في مواجهة الهزات العنيفة التي كان يتعرض لها نتيجة انتشار النمط الكتابي للمعرفة، والازدواج الثقافي، وكسر النقاء العروبي.
أوجد النمط الكتابي ظرفًا ثقافيًا مهيئًا لولادة أنواع أدبية جديدة، دخلت في منافسة قوية مع الشعر تحديدًا لما أبداه من تأبٍّ ومقاومة عزّت على الانطفاء أو الطيّ. كان على رأس الأنواع الكتابية الوليدة "النثر الأدبي" الذي عُني بمناقشة وعرض كل ما يمس الحياة العربية الإسلامية في ذلك العصر، سواء في اللغة أو الأدب أو الأخلاق أو المعرفة العامة والخاصة.. وقد نظّم هذا النوع المعرفة، وتحرّر من قيد الإيجاز الملزِم، واكتسب الترابط الذي افتقده في المرحلة الشفوية، فعالج موضوعات معقدة، وناقش أفكارًا فذة، وترجم عن روح العصر المتوقدة. ومع ذلك فقد احتفظ من الخصائص الشفوية بما سمح له به المقام أو حملته عليه الضرورة. وبما أن الثقافة العربية ثقافة معيارية تتخذ من النص مرجعية لها، فقد ظلت النصوص الأدبية الشفوية المادة الأساسية لكتب النثر الأدبي، والمرجعية التي منها تستمد قيمها، وعلى هامشها تقدم آراءها، ولأجلها تبني معارفها، وكان منهجها الاستنباط من النص، والقياس عليه، أو الاجتهاد في حدوده. وقد سمح الانفتاح الحضاري بتنويع المادة النصية فشملت شيئًا من ثقافات الأمم الأخرى، من باب المعارضة والتعزيز.
أما "الرسائل الديوانية" فهي نوع نشأ عن ضرورات النظام الإداري الجديد الذي لم يكن للعرب عهد به، فاستدعى إنشاءُ الدواوين وجود طائفة من الكتاب يتقنون صنعة الكلام، ويحسنون توصيل الرسالة بين الحاكم والمحكوم، أو بينه وبين نظرائه، وكان للرفعة التي بلغها هذا النوع الأدبي أن أشاد الجاحظ ببيانهم في أكثر من موضع في بيانه، وذلك لاقتدارهم على مخاطبة كل قوم بما يليق فيهم ويجدر بإبلاغهم([51])، وهذا يقتضي الإطالة في موضع الإطالة، والإيجاز في موضع الإيجاز. ولما كان الذوق العربي يميل إلى الإيجاز فقد راح ابن قتيبة يلفت أنظار الكتّاب إلى ضرورة التماس الأنسب لكل مقام، فليس الإيجاز يحسن في كل مقام، واستند في هذا إلى طرق أداء القرآن الكريم بما فيها من تكرار وإطناب وإيجاز، كلّ يستقرّ في موضعه([52]).
ولا يعتمد نجاح هذا النوع على إحكام البناء اللغوي وحده، ولا يكتفي بذكاء الكاتب وعبقريته، بل يحتاج إلى ثقافة واسعة، وهذا العصر عصر العلم والثقافة المنظمة التي تغطي كل نواحي الحياة، ولهذا فإن ابن قتيبة جعل علم الفقه والحساب من أولى أدوات الكاتب، وبما أن اللحن قد بدأ يفشو في الناس نتيجة الاختلاط اللغوي، فقد اشترط عليه أن يسلَم كلامُه من اللحن، وأن يأخذ بحظّ من علم الإعراب.
إن دخول الحضارة في طور المدنية، وانتشار الترف، قد أوجد بين الناس ألوانًا من التظرّف، وآدابًا اجتماعية مترفة، وأشاع فيهم مشاعر مرهفة، وحسًا وقادًا وفكرًا نافذًا قادرًا على ملاحظة ومتابعة أدقّ توترات النفس وأخفى أحاسيسها، فنضج نوع أدبي جديد يستوعب هذه الأغراض، ويكفي احتياجاتها، هو الرسائل الإخوانية والفنية التي أُفرغت فيها شتّى العواطف والأشواق والروحانيات والعتاب والبثّ، وتناولت كل الموضوعات، وعالجت أشد القضايا حساسية... ولم تقف عند ذلك بل نافست الشعر في أغراضه الأساسية كالمدح والهجاء والرثاء.. حتى إن الشعراء أنفسهم صاروا يلجؤون إلى النثر يقدمونه بين يدي أبياتهم وكأنهم يُغْنُونها بمعانٍ وقف الشعر دونها. وكان ذلك بما أوتيت الرسائل من رحابة في التعبير، وتحرر من قيد الوزن، وإمكانية التفصيل والتدقيق دون خشية من انقطاع الصلة بين الكاتب والمخاطب لما بينهما من قيد الكتاب، ومع ذلك فقد ظلت في لغتها أقرب إلى الشعر منها إلى النثر.
وقد دخلت هذه الأنواع مع الزمن طورًا غرقت فيه في مبالغات مسرِفة، وتلاعب لفظيّ متكلَّف، وترف بديعيّ معقّد، آلت إليه كما آلت الأنواع الأدبية الأخرى كلها، وكأنه مصير.
قد يتوقع المرء أن يخفت صوت الشعر مع تخلّف شروطه التاريخية، وتراجع الثقافة الشفوية التي كانت أحد مبررات وجوده الأساسية، بيد أن الشعر قد تابع اندفاعه الواثق في المجتمع العربي الإسلامي كأغنى ما يكون من القيم، ولم يجرح التعدّد الثقافي وانتشار التدوين من كبريائه، لأن مفهوم المعرفة الحية كان يشترط في النص شروطًا متحققة في أقصى مثاليتها في الشعر، بالإضافة إلى أن الاستفزاز الحضاري قد دفع العرب إلى التمسك بكل ما هو عربي أصيل، فأعطى ذلك دفعة للشعر، لا سيما في ظل الحكم العربي وقبل أن يغلب الأعاجم على الدولة الإسلامية. وهذا ما شجع الشعراء على اتخاذ الشعر حرفة يتكسبون بها وقد نشطت سوقه وراجت بضاعته، إلا أن ذلك لم يفرغ الشعر من محتواه الأخلاقي بما أن العمود كان يحمي هذا المحتوى ويصونه بما أوتي من إمكانات تسمح بفصل الشعر عن شاعره، وتجريده عن عوالق مقامه الأول وما فيه من النفاق والتزلف.
وما بين ممانعة العمود وصلابته، وإلحاح التاريخ وضغط الصيرورة، كان لا بد للشعر من أن يقدم تطامنات ما ليستحق انتماءه إلى عصر الذروة والنضج، ويبني جسر الحوار مع أجيال جديدة تدخلت عناصر غريبة في صياغتها، ويضمن ولاءها له، واعتدادها به، في جوّ مشحون بالمنافسة القوية.
وقد تمثلت هذه التطامنات في اتجاهات جديدة ظهرت في الشعر العربي وكان لها روادها وأعلامها وأتباعها.. الاتجاه الأول اتجاه شكلاني يعنى بالمحسنات البديعية واللفظية يحاكي بها ذلك الذوق الزخرفي المترف، والحسّ الجمالي المصقول المولع بالتأنق والتصنيع. والاتجاه الثاني يعنى بالمحسنات المعنوية وتشقيق الأفكار واستنباط المعاني وتوليدها، وهو يحاكي الغنى المعرفي والتفتح الفكري الذي غلب على الحياة العربية. وقد استقر الاتجاهان جنبًا إلى جنب مع الاتجاه التقليدي وصار لكل منها أنصاره، على الرغم من معارضة المعارضين من ذوي الاتجاه المحافظ والمولعين بالاعتداد بالتقاليد، لمـَا كانوا يخشونه من خطر انفلات الشعر العربي من الوظيفية، وضياع خصوصيته في هذه الموجات الطاغية من التجديد. إلا أن هذا الخطر لم يكن له مبرر لأن سلطة عمود الشعر ظلت مستأثرة بالشعراء المجددِّين أنفسهم، وظلت الرقابة النقدية مسلطة على أية محاولة لقطع الصلة بين التقنية والغاية، بين الشكل والمضمون، وكثيرًا ما عابوا على أبي تمام ما وُجد في شعره من غموض أو تعقيد أحال المعنى وضحّى به في سبيل اللذة الجمالية، ولأجل هذا قدّم بعض النقاد البحتري عليه، وبفضل هذه الموازنات استمرت سلطة العمود في الحضور والتوجيه. وليس يقطع القول في هذا السياق أكثر من وصية أبي تمام لتلميذه البحتري ننقل منها قوله: "...وتقاضَ المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرزيَّة، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام... وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين: فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه، ترشد إن شاء الله"([53])!
وفي مقابل هذين الاتجاهين المؤثِرَين للذة، وقف اتجاه آخر ذو طابع نفعي وظيفي يعمد إلى الاستغلال المباشر لإمكانات الشعر العربي الموسيقية وأوزانه المقفاة في حفظ المعرفة وتمكينها في الذاكرة، بعد أن اتسعت المعارف وتشعبت العلوم وصار لها أصول وفروع، تمثل هذا الاتجاه في الشعر التعليمي والتأريخي والحِكَمي. ومع ما في هذا الاتجاه من تحطيم لوحدة الشكل والمضمون من أجل تحقيق الغاية المعرفية، فقد كان محاولة لاستغلال إمكانات الشعر العربي المحتملة كلها.
إن اتساع المسافة بين لغة الأديب ولغة الأدب، وتشوه ملامح البيئة الثقافية بما يعيق عملية التأثير والتلقي، وكساد سلعة الأدب بزهد الحكام الأعاجم به، بالإضافة إلى أن الحضارة العربية الإسلامية كلها كانت تتجه إلى التحجر، وتتحول المفاهيم والقيم فيها إلى تقاليد بدأت تخلو من محتواها وخبت فيها روحها، كل ذلك أدى في المراحل المتأخرة إلى ظهور طائفة من الشعراء تتعلم قوانين العمود لتصنع الشعر، فغرق الشعر في مبالغات مسرفة، وزينة لفظية قتلت ما فيه من روح، وحبست داخل قمقم التقاليد آخرَ ذبالة للغاية الحضارية. وعلى هامش هذا الواقع ظهر شعر شعبي يخاطب العامة ويغرف من لغتها ويعبر عن همومها، وكان له أبطاله أيضًا، وقد تدخلت بواكير الأدب الشعبي في تكريس حال الانفصال الثقافي، والانحدار اللغوي، والمسارعة بانهيار الثقافة الرسمية.
اكتسبت الخطابة عمودها من المثال الإسلامي لأنها كانت شعيرة لازمة في الكثير من العبادات الإسلامية، ودخلت فيما بعد في صلب الممارسات السياسية في الفتنة التي اشتعلت حول الخلافة الإسلامية، كما كانت القناة التي استغلتها المذاهب الدينية في الترويج لفكرها والمحاجّة عنه وإثارة الحماسة له، لما فيها من رحابة تسمح بالمعالجة المنطقية للأفكار، وحرية في تناولها وعرضها. إذن بالقدر الذي كانت فيه الخطابة تستجيب لمتطلبات العصر وتفي بحاجاته المستجدة ارتفع شأنها، وباحتدام التنافس بين الفرقاء نشطت وجادت نماذجها. وكان من آثار دخول الخطابة في هذا الطور العقلي أن تخلت عن بعض ملامحها الجاهلية كاستقلال الجمل، وغلبة الأسجاع.. فأكسبها التنامي المنطقي وحدة وتماسكًا، وتخلّت عن الأسجاع وتوازن الجمل إلا ما جاء عرضًا، وطالت العبارة بما يقتضيه المعنى، وتأنّست ألفاظها بما يناسب ثقافة العصر، بل إنها دخلت طور الجدل المنطقي والاستدلال البرهاني على أيدي المتكلمين فشابتها مصطلحات الفلسفة وطرقها في البرهان والجدل. وهذا ما يسر أن يتولّد عنها نوع "المناظرة"، أو أن تفسح الطريق للمناظرة نوعًا جديدًا يحمل مقومات جديدة تستجيب لمتطلبات الحوار الذي فرضه واقع المثاقفة مع الأمم الأخرى، في حين كانت الخطابة خطابًا من طرف واحد ذي سلطة وهيبة موجه إلى جمهور لحثهم على فعل أو توجيههم إلى اعتناق فكرة وإقناعهم بها. ولم تستطع المناظرة أن تهمّش الخطابة على الرغم مما شابها من ضعف، إذ ظلت الخطابة الدينية تمنح نوع الخطابة هيبته ورسوخه في الحياة العامة.
وقد أضحت المناظرة ضرورة في عصر انتشرت فيه الثقافة العقلية انتشارًا جعلت العامة على قارعة الطريق يتكلمون في الأيس والليس!! والمناظرة في حدّ ذاتها نوع أدبي يأتي في خريف عمر الحضارة، حيث يكثر الجدل ويقلّ العمل، وهي تفارق في أصل مادتها القائمة على الإسراف في التحليل المنطقي، وتشقيق الأفكار، والولع بالمجردات، والإيمان بالعقل والاستناد إليه وحده في اكتساب المعرفة، والتحرر من سلطة النص([54])، قلنا إن المناظرة بهذه التعيينات تفارق المنهج المعياري النصيّ الذي قامت عليه الحضارة العربية الإسلامية، كما تفارق مفهومَ المعرفة الحية الذي راح هو نفسه يخبو مع كل شيء جوهري تخلت عنه الحضارة فآذن ببداية انحدارها، والمناظرة علامة على التمام الذي يعقبه الانهيار (أسرع في نقص امرئ تمامه([55]))!
أما من حيث بنية المناظرة، فهي عمل أدبي يعتمد على طاقات اللغة وحسن البيان ومناسبة أقدار المستمعين، بالقدر نفسه الذي يعتمد فيه على تقنيات المنطق والجدل وقدرات المتناظرين وذكائهما ومهارتهما وثقافتهما وسرعة بديهتهما. وتجري المناظرة بمعناها الاصطلاحي([56]) مشافهة في جو حواري بين متناظرين أو أكثر، وهدفها إثارة تأييد السامعين لفكرة المناظر عن طريق إقناع خصمه أو إفحامه. كما يمكن أن تجري المناظرة بين كل مختلفين يجادلان عن نفسيهما، حقيقة أو افتراضًا، مشافهة أو كتابًا([57]).
إن التشوه الذي لحق بمفهوم المعرفة الحية، وتقلص نسبتها من واقع الحياة المعيشة، تسبب في انحراف النوع القصصي شيئًا ما عن بعده الواقعي، فتلون بألوان الخيالات وأطياف المستحيلات التي تعزز من قدرة الإنسان على مواجهة ضعفه والتأقلم مع واقعه والتعالي عليه أو التهرب منه، مع كثير من الهزل، واستملاح للشطارة والعِيارة والكدْية، واستبدال سند متوهم بسند الرجال الواقعيين أيًا كانت درجتهم في الضبط والعدالة.
وقد تدخلت حالة الانفصام الثقافي، والازدواج المعرفي بين عامة وخاصة، في تبلور نمط شعبي للمعرفة والأدب، يخاطب الطبقات الدنيا ويصدر عن همومها وشؤونها ويستعين بلغتها ولا يأنف من لحنها وعجمتها، فأسهم بدوره في تكريس هذا الانفصام ودفع مركب الأدب الغارق إلى القاع.
بتأثير هذه العوامل مجتمعة تولّد عن القصص العربي الواقعي نوعان أدبيان جديدان، يغلب عليهما الطابع الشعبي، وينحيان إلى الخيال والاختلاق بدل الحقيقة والتاريخ، وإن كانا يتفاوتان في طريقة تجاوبهما مع هذه المؤثرات؛ هما: المقامات، والقصص الشعبي.
كان تاريخ الأدب العربي يتجه إلى ولادة "المقامة" بوصفه نوعًا أدبيًا جديدًا ذا تكوين خاص، وعلى الرغم من أنه يتكئ على نوع القصّ العربي الأصيل، فإنه يفارقه في عنصرين أساسيين:
- الأول، اعتماده على الخيال لا على الواقع، فالراوية والبطل وشخصيات المقامة كلها مفترضة مصنوعة حتى وإن كانت الخامة الأساسية محلية مستقاة من تجارب المؤلف أو ثقافته العامة والخاصة. وإنما جنح الميل إلى الخيال دون الواقع انطلاقًا من واقع مأزوم فقد الإيمان بقدرة الإنسان على تجاوز نقصه والتغلب على ضعفه، ووجد الفجوة واسعة بينه وبين النماذج التاريخية الواقعية الجادّة التي تُتّخذ للقدوة والمحاكاة، فانقلب إلى المحاكاة الهزلية لشخصيات تمتهن الكدية وتعتبر الشطارة ظُرفًا ومهارة، نطقًا بواقع الحال وسخريةً منه. ولعل مؤلف المقامة رغب في الاحتفاظ بتلك الشعرة الواصلة بين الحقيقة والخيال عن طريق الاحتفاظ بشخصية الراوي الذي يسرد الحكاية وكأنها مما عايشه حقيقة، بل إنه يستخدم أعلى صيغة في التلقي هي صيغة: "حدثنا"!
- والعنصر الثاني الفارق: الاحتفال بالبديع والتزام السجع بوصفه سمة مائزة لنوع المقامة وعلامة فارقة عليه، ومع أن بعض نماذج القصّ المنتمية إلى القرون السابقة عرفت ألوانًا من البديع، ووشت جُملها بحلي السجع([58])، فإنما كانت المقامة بذلك تستجيب للذوق الجمالي الزخرفي الذي انحرف إليه الأدب مع بداية الانحدار الحضاري، فصار يستحلي الزينة اللفظية ويولع بالمحسنات البديعية وكل ما هو شكلاني مبهج يستر وراءه ضحالة معنوية وضمورًا في القيم. بالإضافة إلى أن المقامة نوع نثري يقال ليحفظ ويروى مشافهة فتتناقله الألسن ويُتملّح به في المجالس، وقد يسّر السجع تحقيق هذا الغرض، بالتآزر مع الإيجاز الذي طبع الصياغة المحكمة لجمل المقامة، والاقتصاد في ألفاظها، بحيث يمكن للذاكرة أن تضبطها. وعند هذين الوصفين تلتقي المقامة بالقصص التقليدي، وبالأصول الحضارية التي قام عليها الأدب، وتؤكد في النشاط الأدبي نزوعًا غامضًا ملحًا لتحقيق مفهوم المعرفة الحية في أية صيغة ممكنة، حتى وإن كانت شكلاً خالصًا.
وتقترب المقامة من ذوق العامة في موضوعاتها، كما تقترب من القصص الشعبي في طبيعة شخصياتها وهمومها وعناصرها اللغوية، لولا أنها منجز أدبي فردي صيغ صياغة فردية لا نتاج جماعي تراكمي، كما أنها لا تسقط في اللحن أو الابتذال، بل لعل المقامة وجدت لتنهض باللغة العامة وتغنيها بالألفاظ الجزلة الفصيحة والعبارات المنمقة الصحيحة، وتهدي طلاب الأدب وتأخذ بأيديهم في إطار الذوق الشكلي السائد آنذاك.
ليس يخلو تراث أمة من الأمم من مخيلة شعبية تؤمن بالخرافات، وتنسج منها الأساطير تتداولها فيما بينها مفسرة بها ما تعجز عن فهمه أو تأويله، أو تأوي إليها من مخاوفها وهواجسها. وتظل الثقافة الشعبية الأسطورية في حدودها الإيجابية والطبيعية ما لم تفشُ في الوعي العام للأمة، وتغشَ النشاط الإنساني وتقوده وتوجهه، وتحجز مساحة عريضة من حدود الرؤية والاندفاع. وكان أن آل الأدب العربي إلى مرحلة تفاقمت فيها حدة الانفصام بين الأدب الرسمي والأدب الشعبي، فانكفأ الأدب الرسمي على نفسه تقريظًا وشرحًا وتقليدًا بعيدًا عن توتر الحياة ومجافيًا الشريحة الواسعة التي تمثل الأمة في عمقها، وفي ظل هذا التغييب القهري، أبت الإرادة الجماعية الشعبية إلا أن تعبر عن ذاتها في نوع أدبي خاص كان هو القصص الشعبي. ولعل أشهر القصص الشعبية في التراث العربي هو حكايا ألف ليلة وليلة، والسير الشعبية لبعض الشخصيات البطولية التاريخية والمتخيلة كسيرة عنترة والأميرة ذات الهمة وحمزة البهلوان..، وهي حكايا طويلة شفوية مجهولة المؤلف، تنجز عن طريق تراكم خليط من المواقف والأحداث والقصص المنفصلة التي يجمع بينها خيط رفيع يمتد دون أن ينقطع على طول الحكايا، ويغلب عليها الطابع الأسطوري، وخوارق العادات، وترتحل في مجاهل من العوالم السحرية والكائنات الخرافية، وتقصد إلى الإمتاع والتعليم عن طريق الطرق المبتكرة والحيل الفريدة والمواقف الشامخة التي تخرج في كثير من الأحيان عن حدود البشر، وتقدم الشطار والعيار تقديمًا حسنًا متعاطفًا مع توصيف أخلاقي خاص، لمـّا كانوا ينتمون إلى الشريحة الاجتماعية التي تخاطبها الحكايات. وهي في كل هذا تستمد مادتها من المجتمع المعاصر لها وتترجم عن معاناته وتطلعاته، كما تستقي من أحداث التاريخ وشخصياته مع إعادة خلق له، وتجريده من وقائعه ليغدو شيئًا جديدًا فريدًا. وعلى الرغم من أنها تفارق النوع القصصي التقليدي بهذه الملامح، فإنها تلتقي معه في التمسك بالإيجاز، والتحلي بالسجع، بيد أن لغتها تبين عنه في السقوط في اللحن والابتذال.
إن الخيط الذي حاولت المقامة أن تحتفظ به فيما بينها وبين الحقيقة، حاولت القصص الشعبية أن تحافظ عليه عن طريق الخامة التاريخية التي تشكل مادتها الأساسية، وعن طريق عبارات من أمثال "كان يا ما كان"، "بلغني" التي تبدأ بها تلك الحكايا، وبذلك تتجذر في الحياة العربية أفقيًا وعموديًا، عموديًا عن طريق هيبة الماضي، والإيحاء بالواقعية، وأفقيًا بما تستقيه من قيم ووقائع الحياة الشعبية العصرية.
ومع ذلك فإن تلك القدرات السحرية الممنوحة للأبطال تمزق ما بينهم وبين الحياة الواقعية، وكأنهم يُقدَّمون للتغني والالتذاذ لا للمحاكاة والتمثل، ويُعرضون عرض الرموز للتعويض عن إحباطات الواقع وإعادة التوازن للذات المهزومة لا لتطويرها ولكن لتنويمها! وهذا مصدر مفارقتها لمفهوم المعرفة الحية القابلة للتحول إلى فعل أو التمثل في الحياة الواقعية. ويظل القصص الشعبي بعد ذلك سجلاً للقيم العربية الأصيلة يحفظها في الحياة العامة التي تعطلت صلتها بالثقافة المدونة.
خلاصة:
لقد استطاع الأدب العربي أن يحلّ تلك المعضلة المتوهَّمة الناشئة عن التعارض الظاهر بين تداخل الأنواع الأديبة وضرورة تمايزها، وقد يسر هذا الحل توافر أساس مشترك وأصول واحدة استندت إليها الأنواع، ما أشاع فيها قدرًا متماثلاً من الإجادة والرقي، فليس ينحدر نوع في أصل لغته دون نوع آخر، وهذا ما سمح بنجاح التداخل، أو هو في الحقيقة قد جعل التداخل أصلاً في الأنواع، دون أن يخلّ طرف بطرف أو يجور عليه. وفي ضوء هذا المستوى الرفيع للتداخل لن تجد شعرًا يسقط في الابتذال والنثرية، ولا نثرًا يغرق في الخيالات ما دام النوعان مشروطين بقوانين البلاغة العامة.
إذن فقد كان من أسباب نجاح التداخل النوعي في التجربة التراثية، أن الأدب العربي انطلق من التداخل ليطلب التمايز، وليس العكس، وكان التداخل تحت مظلة "البلاغة". في حين يحاول الفهم المعاصر أن يبدأ من التمايز ليحقق التداخل في كثير من الجور لصالح نوع أدبي معين هو الشعر، ولذلك فإن المصطلح الذي تلتقي عنده الأنواع في أغلب الأبجديات المعاصرة هو "الشعرية"!! وهذا خلل مجحف بميزان الأنواع التي ولد كل نوع منها ليستجيب لحاجات لا يسد فيها غيره.
أما الدعوة الرائجة اليوم إلى تحرير الأديب من قيود الأنواع، وإحكام التداخل بينها على ما فيها من مفاهيم لا تستند إلى أصل مشترك، فإن ذلك مفضٍ إلى هشاشة نوعية وذوقية أيضًا، وقد قلنا إن النوع أو التقليد على العموم لا يقيد إلا الذات الضعيفة، وإن الذات تقود التقليد وتستثمره في أقصى طاقاته بقدر ما أوتيت من جسارة غير معهودة، وإنها إن لم تقدر أن تترجم إرادتها في نص فائق فحريتها دليل عجز فيها، وإنما يقاس ذلك التفوق بدرجة الانتشار والاتباع، أي إن التلقي معيار جوهري في التجربة الأدبية، وهو يعبر عن إرادة الجماعة، ويترجم الضرورات الحضارية ومتطلبات المرحلة التاريخية، والمقصود هنا التلقي بمستوييه الإبداعي والانفعالي.
لا ينكر هذا البحث التطور التاريخي للنوع الأدبي، بل إنه يجعل النوع كائنًا تاريخيًا مستجيبًا لمعطيات الزمن والمعرفة. والتطور يعني المتابعة والاستمرار لا الهدم أو البناء على غير أساس، وكل تطوير يجد مقاومة وممانعة، والبقاء للأصلح كما يقال. أما نبذ الأصول واطّراح الثوابت، فذلك يعني بناء الأمة من جديد على أسس ومعطيات جديدة، وما دامت الأمة تحكم فيها معايير اجتماعية وثقافية ممتدة عبر التاريخ، فإن الكلام على تغيير جوهري في الذوق الأدبي مع الافتقار إلى سند اجتماعي وثقافي يعني البناء في الفراغ، وهو بناء، مهما كان شامخًا، فمصيره الانهيار.
أما الفرد الفائق، أو المبدع الحقيقي فهو القادر على الاتّصال بالتيارات العميقة التي ترسم السطح المنظور للواقع الأدبي والثقافي والاجتماعي، وسوف يملي عليه هذا الاتصال متطلبات المرحلة الحضارية، ويمنحه الأدوات القابلة أن تترجم إلى نصوص فائقة تغذّي طموح النهضة وترفده بدلاً من أن تعطّله، وقد قلنا إن الاستجابة تكون أحيانًا عن طريق المعاكسة أو المسايرة، وإن التوازن والأصالة تمنح المبدع البصيرة بأولوية إحدى الاستجابتين.
المصادر والمراجع:
- · ابن خفاجة، أبو إسحق إبراهيم: الديوان، تح: سيد غازي، منشأة المعارف ـ الإسكندرية، ط/2، 1979.
- · ابن رشيق القيرواني، أبو علي الحسن: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر، ط/3، 1963.
- · ابن عبد ربه، أحمد بن محمد: العقد الفريد، تح: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط/1، 1983.
- · ابن قتيبة الدِّينوري، عبد الله بن مسلم: : الشعر والشعراء، تح: أحمد محمد شاكر، دار المعارف ـ مصر، 1966.
- · ابن قتيبة الدِّينوري، عبد الله بن مسلم: أدب الكاتب، تح: محمد الدالي، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، 1981.
- · ابن منظور، جمال الدين محمد بن جلال الدين: لسان العرب، المطبعة الكبرى الميرية ببولاق ـ مصر، ط/1، 1300هـ.
- · أبو زيد القرشي: جمهرة أشعار العرب، دار صادر، دار بيروت ـ بيروت، 1963.
- · أرسطو طاليس: فنّ الشعر (تلخيص ابن سينا)، تر: عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة، 1953.
- · إسماعيل، عز الدين: الأسس الجمالية في النقد العربي، دار الفكر العربي ـ ط/2، 1968.
- · اشبنجلر، أسوالد: الحضارة الغربية، تر: أحمد الشيباني، منشورات دار الحياة ـ بيروت، 1964.
- · الأصمعي، أبو سعيد عبد الملك بن قريب: كتاب فحولة الشعراء، تح: ش. تورّي، دار الكتاب الجديد ـ بيروت، ط/2، 1980.
- · البغدادي، عبد القادر بن عمر: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي ـ القاهرة، ط/2، 1984.
- · التوحيدي، أبو حيان: الإمتاع والمؤانسة، شرح: أحمد أمين، وأحمد الزين، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة، 1939، 1/71–73.
- · الجاحظ عمرو بن بحر: البيان والتبيين، تح: عبد السلام هارون، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة، ط/1، 1948.
- · الجاحظ، عمرو بن بحر: الحيوان، تح: عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي ـ بيروت، ط/3، 1969.
- · الجاحظ، عمرو بن بحر: رسائل الجاحظ، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي ـ القاهرة، 1964.
- · الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني: تاج العروس من جواهر القاموس، مطبوعات وزارة الإعلام ـ الكويت، ط/2، 1987.
- · الصديق، حسين: المناظرات في الأدب العربي الإسلامي، الشركة المصرية العالمية للنشر (لونجمان) ـ مصر، ط/1، 2000.
- · العسكري، أبو أحمد الحسن بن عبد الله: كتاب الصناعتين، مطبعة محمود بك، ط/1، 1319هـ.
- · الفارابي: ديوان الأدب، تح: أحمد مختار عمر، مجمع اللغة العربية ـ القاهرة، 1974.
- · الفيروزبادي: القاموس المحيط، ، المطبعة الحسينية المصرية ـ مصر، ط/1، 1330هـ.
- · القرطاجني، حازم: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تح: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي ـ بيروت، ط3، 1986.
- · المبارك، محمد: استقبال النص عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت والأردن، ط/1، 1999.
- · المبرد: الكامل، تح: زكي مبارك، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ مصر، ط/1، 1936.
- · المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد: الكامل، تح: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، ط/2، 1992
- · المرزوقي، أحمد بن محمد: شرح ديوان الحماسة تح: أحمد أمين وعبد السلام هارون، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة، 1951.
- · النحوي، عدنان علي رضا: الأدب الإسلامي، دار النحوي ـ الرياض، ط/3، 1994.
- · ضيف، شوقي: العصر العباسي الثاني، دار المعارف ـ مصر، ط/12.
- · قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تح: كمال مصطفى، مكتبة الخانجي ـ مصر، 1949، ط/1.
- · قدامة بن جعفر(وينسب إلى إسحق بن إبراهيم بن وهب الكاتب): نقد النثر، تح: طه حسين، وعبد الحميد العبادي، مطبعة دار الكتب المصرية ـ القاهرة، 1933.
- · ناصف، مصطفى: قراءة ثانية لشعرنا القديم، دار الأندلس ـ بيروت، ط/2، 1981.
الحواشي:
([1]) النحائز: الطبائع والعادات، الواحدة: نحيزة.
([2]) التوحيدي، أبو حيان: الإمتاع والمؤانسة، شرح: أحمد أمين، وأحمد الزين، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة، 1939، 1/71–73.
([3]) الجاحظ عمرو بن بحر: البيان والتبيين، تح: عبد السلام هارون، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة، ط/1، 1948، 1/136.
[4])) يعتبر البحث الوحدة بين العروبة والإسلام مسلَّمة ينطلق منها في معالجة قضية الأدب العربي، بيد أنه يجنح إلى إبراز الخصوصية العربية في الدوافع والسمات؛ بما أن الجاهلية هي المهوى التاريخي والجمالي للأدب العربي، حفرت فيه بصماتها وامتدت فيه آثارها حتى بعد الإسلام وفي ظل حضارته. بيد أن لكثير من هذه السمات التي وضحت في العرب ما يقابلها في الرسالة الإسلامية، وقد أعلن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه إنما جاء ليتمم مكارم الأخلاق، وقد اختير العرب مهبطًا للوحي لوجود استعداد أصيل في نفوسهم يخلق فيهم القدرة على حمل الرسالة وتمثيل الوحي. ولذلك فإن الاتجاه الغائي، وربط المعرفة بالمنفعة، وضبط المنفعة بالأخلاق، والإلحاح على المستوى الحي للمعرفة، والاعتدال.. تعتبر كلها ثوابت متجذّرة في الرؤيا الإسلامية وفي صيغتها الناجزة في الحياة والفكر. وعليه فإن "الوسطية" الإسلامية هي المفهوم المرادف للاعتدال العربي وإن كانت ذات ملامح أوضح، ونستطيع أن نستجليها في الأحكام تفصيلاً، وفي منهج الحياة الإسلامية إجمالاً.
([5]) المبرد: الكامل، تح: زكي مبارك، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ مصر، ط/1، 1936، 1/178.
([6]) الجاحظ: البيان والتبيين، 1/4، وهو لبشار بن برد الأعمى.
([7]) المبارك، محمد: استقبال النص عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت والأردن، ط/1، 1999، ص20.
([8]) في مجال المقارنة نجد أن الجذر اللغوي لمادة أدب في الإنكليزية؛ Literature: مشتق من مادة "الحرف: Letter"، وهو الشكل مغيبًا أي بعد وظيفي أو أخلاقي. ينظر: (النحوي، عدنان علي رضا: الأدب الإسلامي، دار النحوي ـ الرياض، ط/3، 1994، ص28-29).
([9]) "(الأدَب، محركة:) الذي يتأدب به الأديب من الناس، سمي به لأنه يأدِب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح، وأصل الأدب: الدعاء،... ونقل الخفاجي في العناية عن الجواليقي في شرح أدب الكاتب: الأدب في اللغة: حسن الأخلاق وفعل المكارم، وإطلاقه على علوم العربية مولَّد حدث في الإسلام..." الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني: تاج العروس من جواهر القاموس، تح: علي هلالي، مطبوعات وزارة الإعلام ـ الكويت، ط/2، 1987، مادة (أدب) 2/ 12.
([10]) يروي الجاحظ أن الخليل قال: "تكثّر من العلم لتعرف، وتقلّل منه لتحفظ". وقال الفضيل: "نعمت الهدية الكلمة من الحكمة يحفظها الرجل حتى يلقيها إلى أخيه". وكان يقال: يكتب الرجل أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب.."، (البيان والتبيين، 1/ 258). وواضح في هذه الأقوال أن المسؤولية العامة وتناقل المعرفة وعدم كتم العلم سبب من أسباب إيثار الحفظ.
([11]) الجاحظ، عمرو بن بحر: رسائل الجاحظ، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي ـ القاهرة، 1964. (مناقب الترك)، 1/ 70.
([12]) هذا الكلام لا يغفل عن المآل الذي آل إليه التقليد في خريف عمر الحضارة العربية الإسلامية حيث فقدت الشعائر والأعراف معناها، وغدت طقوسًا مجردة من الروح ومقيدة للطموح، وأسهمت في جمود العقل وانغلاق الفكر وتحجر الحياة. لقد استطاعت تلك التقاليد أن تصون قيم الحضارة العربية الإسلامية في داخل قوقعتها الرهيبة، وأن تحفظها إلى أن وصلنا إلى عصر النهضة، وبرزت بوادر الإحياء والبعث الحضاري الشامل. نقول هذا الكلام على اعتبار أن الاتجاه التقليدي كان اتجاهًا بارزًا في تحقيق عملية البعث الأدبي والحضاري الشامل، وليس هذا الاتجاه فريدًا في الحضارة العربية الإسلامية، بل كان منهج النهضة الغربية في بواكير عهدها، وإحيائها للأدبين اليوناني والروماني. إن الذي يحث على تأكيد دور التقليد بوصفه آلية معرفية هو ما علق في الأذهان اليوم من سلبية في النظر إلى التقليد على أنه مصدر التحجر والجمود، دون التدبر بأن التقليد آلية حيادية، تثقل على النفوس الضعيفة وتخضعها لها، بدل أن تقودها الذات الواعية الحصيفة إلى مبتغاها بما أوتيت من جسارة غير معهودة.
([13]) ابن رشيق القيرواني، أبو علي الحسن: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر، ط/3، 1963. 1/274. ويقول أبو زيد القرشي في الجمهرة: "وقال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} فكفّ عن خبر الأول لعلم المخاطب بأن الأول داخل فيما دخل فيه الآخر من المعنى"، (جمهرة أشعار العرب، دار صادر، دار بيروت ـ بيروت، 1963، ص11).
([14]) الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني: تاج العروس، تح: مصطفى حجازي، مادة (بلغ) 22/ 445.
([15]) العسكري، أبو أحمد الحسن بن عبد الله: كتاب الصناعتين، مطبعة محمود بك، ط/1، 1319هـ، ص6.
([16]) ابن رشيق: العمدة، 1/244.
([17]) الجاحظ: البيان والتبيين، 1/76.
([18]) العسكري: الصناعتين، ص6.
([19]) أرسطو طاليس: فنّ الشعر (تلخيص ابن سينا)، تر: عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة، 1953. ص170.
([20]) المبرد: الكامل، تح: زكي مبارك، 1/253.
([21]) القرطاجني، حازم: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تح: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي ـ بيروت، ط3، 1986، ص111.
([22]) إن المطلع على التاريخ الأدبي الغربي يدرك أن الولع اليوناني بالتقسيم والتصنيف وتحديد المفهومات قد ألقى ظلالاً رهيبة على قضية الأنواع الأدبية، وتلك الصرامة التصنيفية هي التي ولّدت فعل الثورة على ظاهرة النوع كلها، ونفر الذوق الغربي المعاصر المولع بالحرية من قيود الأنواع المفروضة مسبقًا على التجربة الأدبية؛ إبداعًا وتلقيًا. وبالتالي فإن افتقار النقد العربي إلى نظرية حدية متماسكة يسحب المبررات التي تزعم أن النقد قيّد الإبداع الأدبي، لأن النص كان هو السلطة الفعلية يعنو لها المبدع كما يعنو لها الناقد على السواء.
([23]) يرى الفيلسوف الألماني أسوالد اشبنجلر أنه "قد تمتص الفلسفة في أسمى مراتبها كامل محتوى حقبة تاريخية، وتحقق هذا المحتوى في داخلها ثم تجسده في شكل شخصية عظيمة وبعدئذ تناوله إلى غيرها ليطوره أكثر فأكثر... لذلك أعتقد أن قيمة المفكر تُمتحن بامتحان بصيرته لمعرفة قدرتها على استيعاب حقائق عصره" (تدهور الحضارة الغربية، تر: أحمد الشيباني، منشورات دار الحياة ـ بيروت، 1964، 1/105-106)، وقد شهد الأدب العربي نماذج استطاعت أن توجه مسيرة أنواعه، كمسلم بن الوليد، وأبي تمام.. في تجديد الشعر، وكان المتنبي خلاصتهما، وكبديع الزمان الهمذاني الذي ولدت المقامة على يديه، حيث كانت المعطيات التاريخية والثقافة تمهد لمثل هذا التجديد وتلك الولادة. وتقديرًا للتميز الفردي والريادة الفائقة كانت العرب تفتش في كل شيء عن الأوائل!! إذن، هذا الفهم لا يسلب الفرد إرادته تجاه الصيرورة التاريخية فيلقيه في جبرية يعجز عن تخطيها، وفي الوقت نفسه فإن إرادته تمتحن تاريخيًا، ويظل الفرد جزءًا من معطيات التاريخ تأثـّرًا وتأثيرًا.
([24]) تتحقق إرادة الذات الفائقة عن طريق النص الفائق، فإن لم تستطع الذات أن تقدم إرادتها عبر نص فائق، فإن تلك الإرادة محكوم عليها بالانكسار، والتفوق النصي يوفر له الانتشار والاتباع الذي هو جوهر التمثل النوعي. ويبدو أن من معضلات الإبداع الشعري المعاصر أن الإرادة الفردية للذات المبدعة تقدم في النقد والتنظير كأفضل ما يكون، وهي تهوي في النص آمادًا!!
([25]) ناصف، مصطفى: قراءة ثانية لشعرنا القديم، دار الأندلس ـ بيروت، ط/2، 1981، ص12.
([26]) زهير بن أبي سلمى:
ما أرانا نقول إلا مُعارًا أو مُعادًا من قولنا مَكْرورا
هذا زهير وهو في الرعيل الأول، كما يقول صاحب العقد الفريد (ابن عبد ربه، أحمد بن محمد: العقد الفريد، تح: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط/1، 1983، 6/ 186)، ولذلك قالوا ما ترك الأول للآخر شيئًا!! لا يبدو التجديد في المعنى مشكلة إلا في جو مغلق لا يتجدد، والتجديد لا يغتني من التقنية فقط أو من محاولة درجات انزياح شاذة، وإنما يحصل التجديد في المعاني بتجدد الحياة وغناها، وقد استطاع الأدب العربي أن يقفز قفزة نوعية لما دخل طور الحضارة الإسلامية فتنوعت مصادره وأخصبت تجاربه، في حين كان العرب في جو بدوي صحراوي مغلق لا يعرفون إلا عددًا محدودًا من التجارب والمواقف والأفكار يتعاورونها فيما بينهم.
([27]) "قال عبد الله بن أبي إسحاق للفرزدق: بم رفعت أو مجلف؟ ـ وذلك في قوله:
وعضُّ زمانٍ يا ابن مروان لم يدع من المال إلاّ مســحتًا أو مجلـَّـفُ
ـ فقال: بما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا". (البغدادي، عبد القادر بن عمر: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي ـ القاهرة، ط/2، 1984، 5/ 145).
([28]) لنماذج من شواهد البلاغة من الخطاب المتداول؛ يُنظر: الجاحظ: البيان والتبيين 1/ 45، 98-99.
([29]) ومن هذا ما جاء في خبر هدبة بن خشرم أنه سأل معاوية: "قال: أتحب أن يكون الجواب شعرًا أم نثرًا؟ قال: بل شعرًا فإنه أمتع" (المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد: الكامل، تح: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، ط/2، 1992، 3/ 1452-1453).
([30]) وقد تخرج مقومات الإبداع في التلقي عن حدود النص أحيانًا إلى كل عنصر يمت إليه بصلة، وقد رصد ابن قتيبة بعض المقومات التي ترفع النص في التلقي ولا تتعلق بجودة اللفظ والمعنى، فمن ذلك أن يحفظ النص للإصابة في التشبيه، أو لخفة الروي، أو لأن قائله لم يقل غيره، أو لأنه غريب في معناه، أو لنبل قائله. (ابن قتيبة الدِّينوري، عبد الله بن مسلم: الشعر والشعراء، تح: أحمد محمد شاكر، دار المعارف ـ مصر، 1966. 1/84-87)، ويضيف الأصمعي إلى هذه المقومات: السبق، والاختصار والإيجاز، والعصبية، أو الذوق الشخصي... (الأصمعي، أبو سعيد عبد الملك بن قريب: كتاب فحولة الشعراء، تح: ش. تورّي، دار الكتاب الجديد ـ بيروت، ط/2، 1980. ص9ـ16). وهذه معايير جزئية نسبية كانت تلعب دورًا هامًا في التلقي والتقويم الأدبي.
([31]) وهي الطريقة نفسها التي استعملها القرآن الكريم عندما ترك البسملة على رأس سورة "براءة".
([32]) الجاحظ: البيان والتبيين، 1/86. وهو مروي عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
([33]) خطب أكثم بن صيفي أمام كسرى فقال: "إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعًا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء. آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر. حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان الغاصّ بالماء. شرّ البلاد بلاد لا أمير بها. شرّ الملوك من خافه البريء. المرء يعجز لا المحالة. أفضل الأولاد البررة. خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة. أحقّ الجنود بالنصر من حسنت سريرته. يكفيك من الزاد ما بلّغك المحل. حسبك من شر سماعه. الصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة الإيجاز. من شدّد نفّر، ومن تراخى تألّف". (ابن عبد ربه: العقد الفريد، 1/ 280-281).
([34]) ويلحظ عزّ الدين إسماعيل ظلال قصر نفس العربي في المقارنة بين أدبي المثل والقصة في تاريخ الأدب العربي، ويصل إلى أن القصة لم تكن لتوجد في أدب العرب، لأنها تتابع معنى واحدًا متابعة بطيئة طويلة، تتقصى امتدادته العميقة، وجزئياته السطحية، وليس ذلك بحاصل في "المثل" الذي يعبر عن المعنى الكبير تعبيرًا سريعًا خاطفًا مركّزًا. (إسماعيل، عز الدين: الأسس الجمالية في النقد العربي، دار الفكر العربي ـ ط/2، 1968. ص280).
([35]) قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تح: كمال مصطفى، مكتبة الخانجي ـ مصر، 1949، ط/1، ص11.
([36]) "قيل لعبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي: لم تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك القوافي وإقامة الوزن؟ قال: إن كلامي لو كنت لا آمل فيه إلا سماع الشاهد لقلّ خلافي عليك، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابر، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط؛ وهو أحقّ بالتقييد وبقلّة التفلُّت. وما تكلمت به العرب من جيّد المنثور، أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عُشرُه، ولا ضاع من الموزون عشره"، (الجاحظ: البيان والتبيين، 1/287).
([37]) الجاحظ، عمرو بن بحر: الحيوان، تح: عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي ـ بيروت، ط/3، 1969، 1/72.
([38]) ابن رشيق: العمدة، 1/20.
([39]) الشعر في الأصل عند العرب رديف العلم، يقولون: "ليت شعري"؛ أي ليت علمي، وفي القرآن}وما يشعرون}؛ وما يعلمون، والمشاعر الحواس، ويعرف الفيروزبادي الشعر في القاموس المحيط بقوله: "والشعرُ: غلب على منظوم القول، لشرفِه بالوزن والقافية، وإن كان كلّ علم شعرًا" (الفيروزبادي: القاموس المحيط، ، المطبعة الحسينية المصرية ـ مصر، ط/1، 1330هـ، مادة شعر)، "وقائله شاعر لأنه يشعر ما لا يشعر غيره أي يعلم" (ابن منظور، جمال الدين محمد بن جلال الدين: لسان العرب، المطبعة الكبرى الميرية ببولاق ـ مصر، ط/1، 1300هـ، مادة شعر، والقول للأزهري). إن مادة "شعر" تجمع في دلالاتها معاني متنوعة منها الجرح والإدماء، كما أن الشِّعار العَلَم، والإشعار الإعلام، وشعائر الحج معالمه، والشَّعْراء ذِبَّان أحمر، وقيل أزرق، يقع على الإبل ويؤذيها أذى شديدًا، والشَّعَر النبات والشجر، والشَّعْراء الأجمة والشجر الكثير، وكل ما ألزقه بشيء، فقد أشعره به، أشعر الهمُّ قلبي: لزق به كلزوق الشِّعار من الثياب بالجسد (ابن منظور: لسان العرب، مادة شعر).
وهذا يعني أن مادة "شعر" تشتمل في أصلها على معنى العلم والظهور والخير والأثر الشديد والقرب أو اللصوق، وكل هذه المعاني تذكرنا بقوة الكلمة عند العرب وبعد أثرها وخصوبة توظيفها. أما الشعور بمعنى العاطفة الداخلية للفرد فهو دخيل على أصل المادة إلا بقدر التجوز، أو على الأقل ليس أصلاً في الدلالة.
([40]) ابن رشيق: العمدة، 1/ 265. ومما يرويه المبرد في الكامل أن "التشبيه جارٍ كثيرٌ في الكلام، أعني كلام العرب، حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يُبعِد"، (الكامل، تح: محمد أحمد الدالي، 2/ 996).
([41]) القرطاجني، حازم: منهاج البلغاء، ص 361.
([42]) قدامة بن جعفر(وينسب إلى إسحق بن إبراهيم بن وهب الكاتب): نقد النثر، تح: طه حسين، وعبد الحميد العبادي، مطبعة دار الكتب المصرية ـ القاهرة، 1933، ص70.
([43]) ويرى المرزوقي "أن تأخر الشعراء عن رتبة البلغاء موجبة تأخر المنظوم عن رتبة المنثور عند العرب لأمرين: الأول أن ملوكهم قبل الإسلام وبعده كانوا يتبجحون بالخطابة، ويعدونها أكمل أسباب الرياسة... ويأنفون من الاشتهار بقرض الشعر، والثاني أنهم اتخذوا الشعر مكسبة.." (المرزوقي، أحمد بن محمد: شرح ديوان الحماسة تح: أحمد أمين وعبد السلام هارون، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة، 1951، 1/ 19).
([44]) "الذي يقيّد عليهم مآثرهم ويفخّم شأنهم، ويهوّل على عدوهم ومن غزاهم، ويهيِّب من فرسانهم ويخوِّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة وتسرعوا في أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"، (الجاحظ: البيان والتبيين 1/241)، ويروي ابن رشيق في العمدة: "وقالوا: كان الشاعر في مبتدأ الأمر أرفع منزلة من الخطيب، لحاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة العارضة، وحماية العشيرة، وتهيبهم عند شاعر غيرهم من القبائل؛ فلا يقدم عليهم خوفًا من شاعرهم على نفسه وقبيلته، فلما تكسبوا به وجعلوه طعمة وتولّوا به الأعراض وتناولوها صارت الخطابة فوقه، وعلى هذا المنهاج كانوا حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعّموا أموال الناس، وجشعوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقر في نفسه وقارها وعرف لها مقدارها، حتى قبض نقيّ العرض مصون الوجه، ما لم يكن به من اضطرار تحلّ به الميتة، فأما من وجد البُلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر"، (العمدة، 1/ 82-83).
([45]) الجاحظ: البيان والتبيين، 2/ 6.
([46]) والحفظ هو داعي الإلزام بالإيجاز ما وجد إلى ذلك سبيل، يقول الجاحظ: "ثم اعلم بعدَ ذلك أن جميع خطب العرب، من أهل المدَر والوبر، والبدْو والحضَر، على ضربين: منها الطِّوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضعٌ يحسُن فيه. ومن الطِّوال ما يكون مستويًا في الجودة، ومتشاكلاً في استواء الصَّنعة، ومنها ذوات الفِقَر الحسان، والنُّتَف الجياد. وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حظّه التخليد في بطون الصُّحف. ووجدنا عددَ القصار أكثر، ورواةَ العلم إلى حفظها أسرع.."، البيان والتبيين: 2/ 7، وينظر نفسه 1/ 116.
([47]) الفارابي: ديوان الأدب، تح: أحمد مختار عمر، مجمع اللغة العربية ـ القاهرة، 1974، 1/ 74.
([48]) الجاحظ: البيان والتبيين، 1/86.
([49]) "قالوا: لو أن شعر صالح بن عبد القدوس، وسابق البربري كان مفرقًا في أشعار كثيرة، لصارت تلك الأشعار أرفع مما هي عليه بطبقات، ولصار شعرهما نوادر سائرة في الآفاق. ولكن القصيدة إذا كانت كلها أمثالاً لم تسر، ولم تجر مَجرى النوادر. ومتى لم يخرج السامع من شيء إلى شيء لم يكن لذلك عنده موقع"، (الجاحظ: البيان والتبيين، 1/206).
([50]) الجاحظ: البيان والتبيين 1/ 118-120. ويروي الجاحظ أن بعض الخطباء كانوا يكرهون أن يطعّموا خطبهم الطوال بشيء من الشعر، وإنما كان ذلك منهم لئلا يُطعن في اقتدارهم على القول، أو يظن أنهم استعانوا بكلام غيرهم للتعبير عن معانيهم لعجز فيهم.
([51]) الجاحظ: البيان والتبيين 1/ 137، ابن قتيبة الدِّينوري، عبد الله بن مسلم: أدب الكاتب، تح: محمد الدالي، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، 1981، ص18.
([52]) ابن قتيبة: أدب الكاتب ص19.
([53]) ابن رشيق: العمدة، 2/114-115، وتعليق الرشد الفني بالمشيئة الإلهية أمر خارج عن بنية الخطاب ومحتواه، وهو سبب للإجادة يبين عن إرادة القائل واقتداره، وقد ربط الجاحظ في أكثر من موضع نجاح القول وسداده به، ففي حديثه عن طوال الخطب: "بل كان الكلام البائت عندهم كالمقتضب، اقتدارًا عليه، وثقة بحسن عادة الله عندهم فيه"، (البيان والتبيين، 2/14)، وينظر في هذا المعنى: (مقدمة ديوان ابن خفاجة، أبو إسحق إبراهيم، تح: سيد غازي، منشأة المعارف ـ الإسكندرية، ط/2، 1979، ص5).
([54]) الصديق، حسين: المناظرات في الأدب العربي الإسلامي، الشركة المصرية العالمية للنشر (لونجمان) ـ مصر، ط/1، 2000، ص 229.
([55]) شطر بيت لأبي العتاهية، الجاحظ: البيان والتبيين 1/ 154.
([56]) ينظر: الصديق، حسين: المناظرات في الأدب العربي الإسلامي، ص 213-214.
([57]) ضيف، شوقي: العصر العباسي الثاني، دار المعارف ـ مصر، ط/12، ص 539.
([58]) الجاحظ: البيان والتبيين، 1/ 290.