الدور الحضاري للشعر العربي المعاصر، مدرسة الأصالة ومدرسة الحداثة ـ د. بتول جندية

لماذا تخلف الشعر العربي المعاصر، وما أثر العامل الحضاري في أزمته، بحث محكم، د. بتول جندية

الدور الحضاري للشعر العربي المعاصر، مدرسة الأصالة ومدرسة الحداثة

يكشف البحث، باعتماد المقارنة التطبيقية بين نماذج من شعر الأصالة وشعر الحداثة، عن المقومات المعنوية والشكلية اللازمة لاطلاع الشعر بدور حضاري، واقتداره على التأثير في الواقع التاريخي، وهذه المهمة مرهونة بمدى انضباط الوسيلة الجمالية بالغاية التوصيلية للغة، وتفاوت شعر الأصالة والحداثة في هذه المهمة هو في مدى وفاء كل منهما بهذا الشرط من حيث الشكل والمضمون في آن.
مدرسة الأصالة، مدرسة الحداثة، بحث محكم، تفكيك الحداثة، الشعر العربي الحديث، الأدب العربي الحديث، نظرية الأدب، المنهج الحضاري، البلاغة العربية، النهضة

د. بتول أحمد جندية

قسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة حلب

بحث محكم في مجلة بحوث جامعة حلب

ورد البحث للمجلة بتاريخ ـا 31/12/2009
قبل للنشر بتاريخ ـا 31/1/2010



مقدمة:

ولد الشعر العربي الحديث في جوٍّ مشحون بطموحات جماعية عالية يتحدّد بها مصير الأمة، ويرتسم على تحققها وجودها ومستقبلها، وقد ظل شاغل النهوض مسيطرًا على الأرواح والنفوس، مسخرًا الإمكانات جميعها؛ المادية والمعنوية، في سبيله، وفي قرن لم يشهد مثله بلبلة واضطرابًا، وغيابًا للمرجعيات، واختلافًا حول الثوابت، وضمورًا في الكليات.. كانت غاية النهوض الهدف الواضح المنشود، والكلية المطلقة التي تجتمع عليها الأمة بتياراتها المتناقضة. وقد ولّدت حركة النهوض؛ الفكرية والأدبية، مدرستين أدبيتين رئيستين، واتجاهين جماليين متخالفين؛ أصيل، وحداثي، نتح كلّ منهما من قيم ومفاهيم مغايرة، نجم عنها تغاير شرطي في طبيعة الممارسة الحضارية للأدب عمومًا، وللشعر خصوصًا. 

الأسس الفكرية:

تحكم الاتجاهات الأدبية أسس فكرية عامة تحددّ مفاهيمها وممارساتها، وتُعدّ مدرسة الأصالة امتدادًا للروح الحضاري الذي قامت عليه الحضارة العربية في القرون الخالية، فحكمتها أصوله الفكرية، وأعرافه الأدبية، وذوقه الجمالي، وعلى الرغم من الانحراف الذي أصابها نتيجة ظروف الانحطاط، فإنها لم تتشوّه تشوّهًا كليًا، ضعفت ولكنها ظلت فاعلة، ولم يحلّ محلّها بديل ينقضها نقضًا نهائيًا، وإذا كنا نورد في هذا السياق نصوصًا قديمة، فذلك لأن مدرسة الأصالة المعاصِرة لم تمتلك نظريتها الفكرية الخاصة، وتبنت النظرية القديمة تبنيًا صريحًا من خلال اختيار منهج الإحياء للاتصال بالأصول التراثية، والبناء على أساسها. ويمكن أن نجمل هذه الأصول، والخصائص العامة لمدرسة الأصالة في النقاط الآتية: 

1- ذهنية تميل إلى الاعتدال والتوازن في التعامل مع معطيات الوجود والحياة وثنائياته المتناقضة؛ الداخل/الخارج، الفرد/الجماعة، الروح/المادة، العقل/النقل، الإبداع/الاتباع.. من دون أن تسمح لأحد الأطراف أن يطغى على الآخر، ومن دون أن تتورط في تحويل الحياة إلى ساحة صراع مضطرمة تترك النفس الإنسانية نهبة للقلق والتردّد، لأن "الحياة أخصب من أن يستبد بها شيء"([1])، ويكفيها من الصراع شروط الواقع الموضوعي، وتحدّياته الضاغطة التي تقع على الإنسان مسؤولية مواجهتها.

2- ذهنية غائية تربط القيمة بالوظيفة والمنفعة، وتثمّن الوسيلة بغايتها، ولا تعرف معنى المجانية والعبثية، فـ"مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال"([2]).

3- نظرية معرفية يقينية معيارية هدفها أن تكون حية؛ أي أن تحقق الانتشار في الزمان والمكان، والحضور الدائم في النفس الإنسانية، والترقي من النظري المجرد إلى السلوك العملي والفعل، فـ"لم يدرك الأولُ الشرفَ إلا بالفعل، ولا يدركه الآخِرُ إلا بما أدرك به الأولُ.."([3]). 

4- نظام جماعي؛ قيمي واجتماعي، يحقق فيه الفرد وجوده من خلال الجماعة، وتحقق الجماعة من خلال ولاء الفرد وانتمائه ووعيه الأخلاقي حاجاتها، فـ"خير الناس للناس خيرهم لنفسه"([4]).

5- نظرية جمالية لغوية، تحترم المتلقي، وتعدّ التعبير فرعًا على التوصيل، وتروم تحقيق التعبير والتوصيل معًا من خلال التأثير، لبلوغ أقصى درجاتهما وتمام غايتهما. 

أما المدرسة الأخرى؛ مدرسة الحداثة، فقد اتخذت من النهوض عنوانًا لها، وشيدت بنيانها الفكري والأدبي على مفاهيم منتزعة من الغرب غالبًا طلبًا للحاق بركبه المتقدم، ونستطيع أن نحدد مبادئها الأساسية بما يأتي:

1- اتباع النموذج الغربي، وتبني أسس التجربة الحضارية الغربية لبلوغ هدف النهوض الشامل، "ومن ثم كان علينا أن نستورد نظريات النقد الأدبي كما نستورد محطات الكهرباء"([5])!

2- تضخم الذات الفردية، وإشباع تطلعاتها إلى الحرية، واعتبار الجماعة سلطة خارجية، أو نظامًا أبويًا رقابيًا يكبل الحرية، ويقيد الإبداع، ويعيق التقدم، "إنه الريح لا ترجع القهقرى والماء لا يعود إلى منبعه. يخلق نوعه بدءًا من نفسه ـ لا أسلاف له وفي خطواته جذوره"([6]). وقد غلبت الميول الذاتية على التيار الواقعي نفسه؛ ما دعا غالي شكري إلى اعتباره تيارًا واقعيًا رومانسيًا([7])! 

3- نظام معرفي مولع بالتفلسف والشك، ورافض للمسلمات، ومؤمن بالتعددية المطلقة، ومزدرٍ للإجماع، فإجماع ذوي العقول مصادرة للرأي وينطوي على إرهاب للفكر، كما يقول ليوتار([8])..

4- الدخول في صراع وجودي مع الثقافة التقليدية الرجعية، ومحاولة تصفيتها من خلال تبني مفهوم الثورة الانقلابية الشاملة؛ أو الهدم من أجل البناء، مع فقدان البديل الواضح أو تصور لنظام كلي متفق عليه، "فلهذا اخترنا أن نقدم تحطيم الأصنام الباقية على تفصيل المبادئ الحديثة"([9])!

5- نظرية جمالية لغوية تؤثر التعبير على التوصيل والتأثير معًا، وتنحاز انحيازًا مطلقًا لإرادة المبدع؛ شكلاً ومضمونًا. وتعدّ التلقي نشاطًا مفتوحًا مستقلاً عن عملية الإبداع.

بدأت المدرسةُ الحداثية مع التيار الرومانسي الذي تبنى مفاهيم الحرية والفردية، ورفع شعار الثورة وهدم الثقافة القديمة، وحاول تجسيد هذه المفاهيم في الشعر، بيد أنه لم يحقق نجاحًا حاسمًا أو تغييرًا جذريًا، لأن الشكل الشعري القديم ظل حاميًا للقيم الجماعية التي أوجدته، فلما تمّ لمدرسة الحداثة تفكيك الشكل القديم وتقديم بديل له مع ظهور الشعر الحر، سيطرت المفاهيم الحداثية على الشعر العربي، وأوجدت التقنيات الشعرية الملائمة لها. هذا التباين الواضح في أسس المدرستين لا يلغي طموحهما المشترك لتحقيق النهوض من خلال هذه الأسس نفسها، وسيكون من مهمة هذا البحث رصد انعكاس هذا الطموح في شعر كلا المدرستين، واكتشاف مدى استجابة الشكل الشعري في كل منهما لهذه الغاية الكلية، مع التذكير ابتداء بأن الحضارات لا تنهض إلا على أساس فكرة يقينية، وتماسك اجتماعي وأخلاقي، وغلبة المنازع الجماعية، وتحقق القيم والمثل الكلية في الحياة المادية والوجود الإنساني! وواضح أن أسس مدرسة الحداثة تبين بونًا شاسعًا عن شروط النهوض الحضاري العامة، ولكن مصبّ اهتمامنا هنا ليس هو أصل المبدأ الفكري للحداثة، ولكن مدى مشاركة الشعر بمفهومه وتقنياته الحداثية في تحقيق غرض النهوض أو "الحداثة". 
الدور الحضاري لمدرسة الأصالة:

لما كان الشعر العربي في مطلع القرن العشرين أبرز فنون العرب وأعرقها، فقد أنيط به دور ريادي في مشروع النهوض الثقافي، ومثّلَ خطوة طموحة لاستعادة أمجاد الأمة الغافية، وإعادة وصل النفس العربية بمنجزات أسلافها الجليلة البعيدة، لخلق الشعور بالعزة فيها، وزرع حس الانتماء في الأرواح التي شوّهتها قرون الانحطاط، وألفان الذل، واعتياد اللامبالاة والسلبية. ولذلك جاء بعض شعر البارودي مثقلاً بالألفاظ القديمة الجافية، وكأنه مشاركة منه في إحياء اللغة العربية وإغناء مفرداتها، وتحريرها من الرطانات ورواسب العاميات. لا شك في أن غاية النهوض والإحياء هذه قد وجّهت عملية الإحياء نفسها، وفرضت على الشعراء الاجتهاد لبعث الأعمال الشعرية القديمة، ومحاولة الاقتداء بها، واستلهام طرائقها، فكان التقليد أداة من أدوات النهوض الأدبي والحضاري، تمامًا، كما كان إحياء الأدب اليوناني أداة من أدوات النهضة الأدبية في الغرب، وبذلك شارك الشعر الإحيائي بكينونته نفسها في مشروع النهوض، قبل المهام المباشرة التي أنيطت به، والمضمون الملتزم الذي اضطلع به في الحياة السياسية والاجتماعية.

في مواجهة الانحطاط كان على الأمة أن تحتفظ بحالة معافاة متوازنة تعينها على استغلال طاقاتها كلها وعدم إهدار شيء منها، ولذلك فإنها وقفت موقفًا إيجابيًا من الفرد باعتباره عضوًا فعالاً؛ بحسب تعاونه، وبقدر إيجابيته، يكون هدف النهوض ممكنًا، هذا طبعًا من دون أن تضحي بالتماسك الداخلي وبقوة الجماعة، فمسؤولية وجود الجماعة وحمايتها هي مسؤولية فردية قبل كل شيء، ولذلك كانت دواعي الشعر عند خليل مطران؛ أبرز مجدد في مدرسة الأصالة، هي: "لترضية نفسي حيث أتخلى. أو لتربية قومي عند وقوع الحوادث الجلى"([10]). فهي دواع تجمع بين الإمتاع والأخلاق، وتجعل ما هو جماعي شأنًا فرديًا والتزامًا ذاتيًا. فالذات تعيش التصالح مع الجماعة، والتوحّد بها، وتندمج معها، وتصدر عن حاجاتها وغاياتها، وتسخّر إمكاناتها لتحقيق هذا الاندماج والوصول به إلى درجة التكامل، وتعيش في الواقع لا على هامشه. هذا هو المنطلق الفكري الذي كان ضاغطًا على التجربة الشعرية لمدرسة الأصالة، ليس من حيث المضمون فقط، فقد استجاب الشكل الشعري استجابة مثلى لهذا الفكر. 

التعبير عن التجربة الجماعية، والمشاركة في صنع تاريخ الأمة، وبلورة اللاشعور الجمعي، تمثل في المجال الموضوعي في الكثير من القضايا التي استقطبت الوعي العربي في تلك المرحلة، ولعل أبرزها قضية الهوية التي صارت موضع خلاف وجدل غير مسبوق، وأحدثت بلبلة في النفوس التي كانت تبحث عن خلاصها فتاهت عن ذاتها، ولأجل تلك البلبلة تحمل الشعر مسؤولية بناء الهوية، وتمكينها في النفوس، عبر تنبيه العاطفة الوطنية، وزرع الشعور بالولاء والانتماء للوطن الذي حوله شوقي إلى معشوق حين قال([11]):

وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلـدِ عَنـهُ ـــــــــــــــ نازَعَتني إِلَيهِ في الخُلـدِ نَفسـي

كما طمح الشعراء إلى إرساء دواعي الوحدة النفسية والفكرية، مستغلين نقاط القوة في الهويات المتصارعة كلها لبلوغ هذا الهدف، ومن دون أن يجد أكثرهم غضاضة في الدعوة إلى الوطنية والقومية، أو إلى العروبة والإسلام، وإلى الرابطة الشرقية كذلك، باعتبار هذه الولاءات كلها مصدرًا لهوية شعب واحد، وأن مفاخرها مجتمعة قادرة على انتشال الشعوب من طبع الذل المستحكم فيها، ولأن هذه الهويات، إن لم تتطرف، لا تتنافى. هذا أحمد محرم شاعر "الإلياذة الإسلامية" التي يستعيد فيها الرابطة مع ميراث النبوة، لا يجد غضاضة في أن يقول في هوى "مصر"([12]):
هي القدَرُ الجاري، هي السُّخط والرضى ــــــــــــــ هي الدين والدنيا، هي الناس والدهر
بذلك آمنا، فيا من يلومنا ـــــــــــــــــــــ لنا في الهوى إيماننا، ولك الكفر 

وقد عرف الشاعر بثاقب نظره وحسه الصائب أن الشعر مكون ثقافي عظيم الأثر في صناعة النفوس والتأثير فيها، وبالتالي، في تغيير التاريخ، فأشهره سلاحًا من أسلحة النضال، ودرعًا إيجابيًا يقي صدمات الواقع المحبطة، ويحرض على الثبات والثورة، يقول الجواهري([13]):
سبحانَ آلاءِ الشُّعوبِ فإنها ـــــــــــــ لَتُقلِّبُ الأيّامَ كيف تشاءُ
واللهُ في هِممِ الرِّجالِ، وإنْ رَمى ـــــــــــــــ رُجْم الظُّنـونِ، وشَعْوَذَ الجُهلاءُ

وكانت أهم مشاركات شعراء مدرسة الأصالة إشاعة روح التفاؤل والأمل، واستنهاض الهمم، وعلاج الشخصية العربية مما ترسب في قاعها من آثار الانحطاط، وأمراض الوهن، وعوائق الفاعلية، لأنهم أدركوا أن القوة النفسية هي المعادل الداخلي للتحديات الخارجية، وأن تعزيز الدوافع الإيجابية يساعد في التوافق مع المحيط الخارجي والاستجابة الإيجابية لمتغيراته. ثم إن النفَس الإيجابي، وموقف التفاؤل الذي يعلو على شروط الواقع وخطوبه، ميزة من ميزات الشعر الإحيائي، وثمرة من ثمرات التوازن الذي تملكه النفس العربية؛ بين إيمانها بإمكاناتها ومصادر قوتها، وتقديرها الواقعي لمحيطها وظروفها الموضوعية، وليس بخافٍ أن التفاؤل، واعتداد الأمة بذاتها، سلاح من الأسلحة الأساسية والماضية في معركة نهوض أية أمة، وفي قدرتها على مواجهة التحديات، فكيف إذا كانت تحديات استئصال، وتهديدًا مباشرًا للهوية؟! ولكن الشاعر لم يكن مثاليًا منقطعًا عن الواقع، ولم يخدع قومه ويغررهم بأمجاد موهومة، وصروح مبنية على رمل يميد، وفخر أجوف ما يلبث أن يتبدد، فقرن ذلك كله بمواجهة الأمة بعيوبها، والكشف عن نقاط الضعف فيها، ومحاولة معالجتها، عبر النقد اللاذع لتقصيرها، وتقريع المتخاذلين والعملاء فيها، من دون أن يضحي بسمة التفاؤل الغالبة، والتعالي على الكوارث، والتماسك أمام المحن، يقول محرم([14]):
داء أهل الشرق ضعف الهممِ ـــــــــــــــــ وبهذا كان موت الأممِ
يا بني الشرق، ولا شرق لكم ـــــــــــــــــ بسوى الجِّدّ، ورَعْيِ الذِّمم
..يا بني الشرق أفيقوا، إنما ـــــــــــــــــــ ..خدعتكم كاذبات الحُلُم
..لا تظنوا المجد شيئًا هينًا ــــــــــــــــــــ ..إنه في لَهَوات الضيْغم

واتخذ الشعراء شعرهم منبرًا لمعالجة المشكلات الاجتماعية؛ كالجهل والتخلف والفقر([15])، مستغلين ما لهم من شأن ومكانة اجتماعية وأدبية، وقرب أصواتهم من الجمهور، وعلوها على أصحاب السلطة والنفوذ، حتى صار يُنتظر منهم في كل منبر مشاركة. ذلك كله حول الشعر إلى ساحة نضال أمامية لمواجهة التحديات المصيرية، وعدة من عدد الكفاح في سبيل النهوض، وإن لم يخل من ممارسات فردية تميل إلى المحتل، وتبارك الغرب، وتمالئ قياداته وتنبهر بأعلامه تحت ضغط الضرورة أو المصلحة، وإحساسًا بالدونية أحيانًا([16])، ولكن ظل هذا في إطار المواقف الفردية وضعف النفس أمام الإغراءات والتهديدات، وظل الموقف النضالي الطابع الغالب على الشعر المحافظ، وموقف الالتزام ذاتيًا من قبل شعرائه([17])، التزامًا يصل حدّ مواجهة المحتل مواجهة سافرة أحيانًا، والتحريض الصريح للشعوب على الثورة والتمرد([18]).. إذن، استطاع الشعر الإحيائي أن يمثل استجابة صحّيّة لحاجات المرحلة الحضارية التي فرضت رصّ الصفوف، وتعزيز الوعي الجماعي، وطمعت في امتلاك شخصيات متوازنة لا تتآكل آمالها تحت ضغط النكبات، وتنطلق من يقين ثابت لا تهزه هجمات الشك والحيرة، حتى لكأن القصائد نفسها صارت تخوض المعارك الميدانية بنفَس بدوي الجبل حين قال([19]):

من مُبلِغٍ عني الرئيس قصيدة ــــــــــــــــ تحمي الثغور فكل بيت فيلق

وقد أعانت خصائص الشعر التراثية على جعل إمكاناته الحضارية لا تنفد، أما القيمة الفنية لذاك الشعر فهي متفاوتة بحسب سيطرة الشاعر على مادته أو سيطرتها عليه. إن مبدأ الإيجاز البلاغي، ووحدة البيت الشعري، وصياغة الأمثال والحكم، والأساليب الخطابية والإنشائية التي تقوم على الحماسة والفخر، مع استغلال المديح والمبالغة في بناء النماذج ورفع القدوة للجيل، وتشخيص المبادئ والقيم.. هي القوة الأساسية للنظام الشعري الأصيل ليحقق هدفي المعرفة والصلابة النفسية، فهذه التقنيات تسمح للشاعر بأن يخترق حجب الألم الكتيمة ليكتشف القوانين، ويُعلِّم تجاوز الخطوب، والتعالي عليها بخلقي الفخر والتجمل، وشعر المناسبات هو استجابة فنية، والتزام ذاتي تجاه الجماعة، بالتفاعل مع الأحداث المصيرية والمواقف العامة التي تمس الأمة سلبًا أو إيجابًا، وليس مجرد نفاق اجتماعي مزيف أو مصطنع. وكذلك هي الرصانة في الأسلوب، والتوازن بين العقل والعاطفة، والشكل والمضمون، وكره الغموض المبهم([20]).. كلها تقنيات ساعدت الشعر على تحقيق غرضه الحضاري، وتمكين صلته بجمهوره، وتعميق أثره الفكري والاجتماعي، وكونها استمرارًا للطرائق القديمة، لا يمنع من أنها استجابة صادقة وذكية لمقتضيات الدور النهضوي الذي مارسه الشعر، ولمتطلبات المرحلة الحضارية، وتعبيرًا شفافًا عن خصائص النفس العربية التي احتفظت رغم الانحطاط بأفضل ما فيها. ولقدرة أحمد شوقي على استغلال هذه التقنيات الاستغلال الأمثل ُسلِّم إمارة الشعر، ولم يمنحه شعب كامل غريزيًا هذه المنزلة([21])، إلا لخطورة الدور الحضاري الذي اضطلع به شعره، ولعمق الأثر الذي تركه في نفوس الناس إلى اليوم، ولقدرته على تمثل خصائص النفس العربية المشتعلة بالأمل، والمترفعة أمام التحديات والمحن، وهي "سمات فكرية عربية إسلامية شديدة المعافاة"([22])، استطاع شوقي أن يجسدها، ويغذيها. 

الدور الحضاري لمدرسة الحداثة:

غلب النزوع الفردي على الفكر العربي مع بواكير عهد الاستعمار، وغرق الشعر في ميوعة رومانسية مسرفة، تميل عن الواقع إلى عالم الذات الداخلي، إلا أن واقع الدواوين الرومانسية يشير إلى ظاهرة قوية مطردة تطعن في عمومية هذه الحقيقة لا في جوهرها، نقصد بها إنتاج بعض الشعراء الرومانسيين؛ أو أكثرهم، قصائد تعبر عن القضايا المصيرية، وتتحمس لها، وتتبنى موقفًا ملتزمًا تجاهها. ونستطيع أن ندرج كثيرًا من شعر الشابي، وعلي محمود طه، وإلياس أبو شبكة، والهمشري، والصوفي في هذا الباب، وإن كان شعرهم الملتزم يتفاوت من حيث التجربة، والإبداع الفني، والتجاذب إلى إحدى المدرستين؛ الغربية أو التراثية، من حيث الطرائق الشعرية، ودائمًا في أرض الرومانسية لا بدّ من التزام مبدأ النسبية، واحترام الاختلاف، وتوقع التفرّد، إلا ما كان تعبيرًا عن إرادة جماعية؛ كالشكل الشعري تحديدًا، أو عن مصير مشترك؛ كضغط الواقع شرطًا. لقد استطاع الواقع أن يخترق قوقعة الشاعر الرومانسي المغلقة، وجَرَّهُ خارجَها، على الرغم من استبداد الوعي الفردي بالذات العربية، وسيطرته على مفاهيمها ومواقفها، لأنّ ضغط الواقع ظل على الدوام القوة التي لم يستطع الشاعر العربي، أن يتحرر من أسرها، أو يتهرب من سلطانها، ولهذا وجدت التيارات الواقعية في الوطن العربي رواجًا عريضًا، بقدر ما تشبعت بالمفاهيم الرومانسية وتضلعت بالمنازع الفردية، في مزاوجة عجيبة لم تحقق طموحات أي من الطرفين. أما من حيث الشكل الشعري، فقد استطاع النظام البنيوي الأصيل، والخصائص النوعية للشعر، أن يحميا الغايات الجماعية في الشعر الرومانسي، وخفّفا من حدة الاندفاعة الرومانسية وتطرفها في التجديد، إلى أن تمكنت مدرسة الشعر الحر من كسر هذا الطوق بالتحول إلى شكل جديد مغاير يحطم هيبة النظام الشعري القديم، ويخضع لإرادة الشاعر الفرد، ويكون البديل الفني القابل للتبني. 

بنيت الصيغة الحداثية للشعر على أساس مفهومين ذاتيين: المضمون الذاتي، والشكل الذاتي. وهما معًا سيحددان تصور الحداثة الخاص لإسهام الشعر الحضاري، والدور الذي يتوقع منه أن ينهض به. نقصد بالمضمون الذاتي أن الشعر يقدم تصور الشاعر الخاص للقيم والمبادئ والأفكار والأحلام، من دون أن يتقاطع مع المجموع، بل لكي يعبر عن القطيعة مع هذا المجموع؛ التقليدي، الماضوي، المتخلف. وهو في هذا يعبر عن ثورة الذات النرجسية المتعالية على الجماعة، ثورة غير مهادِنة، تريد أن تشيد على أنقاض ما تهدم عالمًا مأمولاً مغايرًا، ولذلك فإن إحساسها بالاغتراب عن محيطها وثقافتها وأمتها متأصل بعيد الجذور. وأما الشكل الذاتي فهو يستند إلى قيم ومفاهيم جمالية ذاتية غريبة عن الجمهور، تعدّ الانزياح وحده علة الإبداع، وتستعين بتقنيات وأساليب لغوية ذاتية يخترعها الشاعر ويهمها إشادة دلالة ذاتية تلغي فعل التواصل الذي نشأت اللغة لأجله، ليصير العمل الشعري تعبيرًا مجانيًا مغلقًا عن الذات. وإن أخطر النتائج المترتبة على ذاتية مفهوم الشعر هي تحييد الشعر اجتماعيًا أو عزله، وتفريغه من قواه التأثيرية في الواقع الموضوعي، إذ لم يعد من الممكن اعتبار "الأدب مؤسسة اجتماعية، أداته اللغة، وهي من خلق المجتمع"([23])، لأن الأديب الحداثي قادر على تجاوز اللغة نفسها، وتحدي قوانينها، لا نقول ضمن المجال المعقول الذي يسمح به الانزياح الفني، وما يجوز فيه للشاعر ما لا يجوز لغيره، ولكن ترفعًا على اللغة وعلى إرادة الجماعة فيها. يحق للفرد أن يكون رائد حركة تجديد وتغيير، وأن يبشر برؤيا طموحة للمستقبل، وأن يكون صاحب عقيدة أو مذهب ويدعو إلى تصور جديد للحياة يعدّه منقذًا من هاوية التخلف. ولكن التغيير التاريخي يبدأ من الفرد لينتهي إلى الجماعة، فإذا كان الشاعر الحداثي يترفع على الجماعة، ويحتقرها، ويجعل من شعره وسيلة قطيعة معها، فيخاطبها بلغة لا تفهمها من حيث أراد تكريس الزخم الجمالي للشعر في التأثير وتحقيق غايته التبشيرية، فهذا يعني أنه قد خان سلفًا قضيته وفنه معًا، لحساب تحقيق ذاته، وفرض إرادته، وتعويض مركّب النقص لديه، وعجزه الكلي في الواقع، بالقناعة باللعب اللغوي الحر والمجاني، والتعبير الانفعالي المفكك. ولا ينسجم أن يكون الشعر مجانيًا وصاحب قضية!! الحقيقة أن الشاعر الحداثي يؤثر في الغالب "أناه" المريدة لا الشاعرة؛ على قضيته، لأن شعره مجروح فنيًا، مشلول وظيفيًا، وفردية الشاعر هي مشكلته، وهي مشكلة فكرية اجتماعية نفسية قبل أن تكون فنية.

مع نبذ الخطابية والحماسة الشعرية، تحول الشعر الحديث من سعي إلى استنهاض همم الأمة، ودعوتها إلى الانتفاض والتغيير، إلى خطاب البطل الفرد، البطل المخلِّص، الذي يحقق النبوءات، ويهزم المستحيل، وكثيرًا ما ساق شعراء الحداثة هذا المفهوم عبر الحامل الرمزي، وطقوس الأساطير، وأبطال التراث الشعبي، ولكنها كلها تنتهي إلى قول محمد عمران([24]): "بطولة فرد،/ هي بطولة أمة،/ ثم، بعد ذلك، مجد تاريخ مغاير،/ أبطالٌ، تغتالهم أيدٍ، وحدها، يكتب/ لاسمها التاريخ..."، وبغض النظر عما في النص من نثرية واضحة، وانتهائه بمعاظلة محبطة، نقول: كانت هذه القطعة خلاصة قصيدة حاول فيها الشاعر استثمار التراث الشعبي وحكاية "الفراري" أبي علي شاهين في مضمونه النضالي، أو كما يقول: "أبو علي شاهين../ حكاية أرض، وطن، علم../ رمح أحمر، طالع من وجع الأرض/ الأرض المجرَّحة،/ الأرض المسبيَّة"، ولا يبدو هذا الاستثمار مفاجِئًا، لأن البطل في الأدب الشعبي هو أيضًا المخلّص الذي تتواكل عليه العامة لتحرير بعض حقوقها من مغتصبيها، وتحقيق انتصارات سهلة تغلب عليها الخوارق، وكأن الشعر الحداثي باستعارته رموز التراث الشعبي يعيد سيرة عهد الانحطاط، ويكرس منظومته الاجتماعية العرجاء. ويبعث أدونيس مهيار من عمق تاريخ الخلاف ليبرزه في صورة الفادي المبشّر، والثائر الذي يجابه كلاً من المستبدين والشعوب، في "أغاني مهيار الدمشقي"، يقول([25]): "لاقيه يا مدينة الأنصارْ/ بالشوك، أو لاقيه بالحجارْ/ وعلّقي يديهْ/ قوسًا يمرّ القبرْ/ من تحتها، وتوّجي صِدْغيهْ/ بالوشْم أو بالجمرْ ـ/ ولْيحترقْ مهيارْ"، ومهيار لا يفنى، يتقلب ثم يعود، "كل جزء.. في جسدي ينبوع"، ولكنه أيضًا "دم وماء"، لا بد أن يشعل باللهب السماء([26]): "وقيل صارت تُمطر السماءْ/ نارًا على المدينة. استُذِلّتْ/ فانسحقت واحترقتْ،/ وبقيت زمانًا/ يخرج من أنقاضها دخانٌ/ يشمّه الناسُ فيسقطون/ موتى،/ ومهيار دمٌ وماءْ/ والأرضُ مثل وجههِ،/ تبدأ، مثلَ صوتِه.../ والناسُ يُولدونْ..." فإذن، مهيار ثائر على الجماعة وعلى سائسها ومعتقلها معًا، وهو منذر بالحرب والخراب، لا مبشر بالربيع والنضار فقط([27])، فالشعر الحداثي حرب، "إنه الموت على الإيقاع موزونًا.. ولا شيء سوى الموت الجميل"([28])، وليس يتوقع من الأمة أن تواجه من ينتهك قداسة محرماتها، ويقذف تراثها ومحضن عزها وفخارها بالنار، إلا بالنار والنبذ والطرد، ولذلك فلا مسالمة بين الطرفين. وقد نجم عن حالة الحرب هذه أن صارت الصورة النمطية للجماهير في الشعر الحداثي أنها مسوسة مخدرة من قبل نظام إرهابي قمعي لا يرحم، فهي عدوة نفسها، وعدوة منقذها، يقول بغدادي([29]): "نامت القطعانُ في المرعى/ ولا خوف عليكم/ فاستمرّوا/ ذهبَ الكابوسُ/ فارتاحوا على العرشِ/ وقرّوا.."، إنها صورة سلبية تكرس اليأس والسوداوية والعجز، وهي أمراض قاتلة لأية أمة تتطلع إلى نهوض، صحيح أن المصارحة دواء، والنقد الذاتي صحة، ولكن إن لم يملك الناقد القدرة على بثّ الأمل، وإشعال الحماسة للعمل، فمهمته فاشلة، ونقده سلبي محبط. إن وضع الفرد في مقابل الجماعة غير سليم، سواء أكان الفرد هو المضحي والأمل المنقذ([30])، أم كانت الجماعة هي القربان على مذبح الفرد النرجسي. وفي ظل هذا الجو الصدامي بين الطرفين طبيعي أن يعيش الشاعر حالة غربة دائمة، واغتراب متعمد عن المحيط الاجتماعي، وإحساس قاتل بالعجز والإحباط، يقول بغدادي في القصيدة نفسها "الشعر يستأنف الحرب!"([31]): "وطني/ يا أكبر الأوطانِ/ يا أحلى وطنْ/ أعطني زاويتي فيك/ فقد سدّدتُ مرّاتٍ ومرّاتٍ/ كما شئتَ الثمنْ/ ما الذي تطلبه منّي ولم أدفعْهُ/ يا أقسى وطنْ!".

ويفرّ الشاعر من وطنه الواقعي إلى وطنه الذاتي أو فردوسه المفقود، مصلحًا فيه ما بين الفرد المبدع والجماعة([32]): "أحاولُ رسْمَ بلادٍ لها برلمانٌ من الياسمينْ./ وشَعْبٌ رقيقٌ من الياسمينْ./ تنامُ حمَائمُها فوقَ رأسي/ وتبكي مآذنها في عيوني./ أحاولُ رسْمَ بلادٍ تكون صديقةً شِعْري/ ولا تتدخَّلُ بيني وبين ظُنُوني./ ولا يتجوَّلُ فيها العساكرُ فوقَ جبيني./ أحاول رسمَ بلادٍ/ تُكافئني إن كتبتُ قصيدةَ شعرٍ/ وتصفحُ عني، إذا فاضَ نهرُ جنوني.."

وردًا على التجاهل والازدراء، يقبل الشاعر أن يغني لنفسه وأن يملأ شعره بالأحجيات، إلى درجة حملت نزارًا على التحسر: "رحم الله كلامًا عربيًا/ لم نعدْ نُشبهُهُ../ لم يَعدْ يُشبِهُنا.."([33])، وجعلت البياتي يطالب: "فيا شعراء فجر الثورة المنجاب/ قصائدكم له، لتكن بلا حُجّاب/ فهذا المارد الثائر إنسان/ يزحزح صخرة التاريخ، يوقد شمعة في الليل للإنسان"،([34])، لأن هذا الشعر لا يغنِّي لهذه الأمة، ولا لهذا الجمهور، إن له جمهوره الخاص، أو جمهوره المفترض المتخيَّل، فنزار نفسه هو القائل قبل أسطر: "ما لشعري وطنٌ أو وُجهةٌ"([35])، وهو من أكثر الشعراء التزامًا، وقربًا من جمهوره، فكيف بمن، منذ البداية، يتنكب هذه الجادة ويبشر بلغة غريبة، وهوية غامضة مريبة، "إنه مثقلٌ باللغات البعيدة"([36])، ومعلوم أن وضوح الولاء وصلابة الانتماء عنصر أصيل في تحفيز الشعوب وتحريكها. إذن، فقد صار الغموض موقفًا لا تقنية شعرية فقط، هو موقف "مَنْ قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"([37])، هو موقف النخبة المترفعة على الرعاع أو "نسل المقبرة"([38])، ولأجل هذا فإن الأعمال الشعرية تزداد مع الزمن تعقيدًا وغموضًا، لأن القطيعة تتأصل بين الطرفين، وإمكانات الانفراج تغدو معدومة، ويقبل الطرفان أن يغني كل على ليلاه!

لا ندري على أية صخرة تكسرت إرادة الشاعر الحديث المطالِب "بأن يجلب هؤلاء الناس إلى ساحته هو، وأن يوجد صيغة للتوصيل وللتواصل مع المتلقي"([39])، ولا أين تبخرت طموحاته لـ"اكتساب أنصار، ليس للشاعر فقط، وإنما أيضًا للقضية التي يحملها هذا الشاعر، وبالتالي فإن استخدام كل الوسائل الفنية لجذب أذن وعين القارئ المتلقي كان هامًا بالنسبة لنا"([40])!! الواقع أنه بسبب من مضمون الشعر الحداثي وشكله تعزّزت القطيعة بين الشاعر وجمهوره، أو بينه؛ بوصفه مبشّرًا نهضويًا بالمستقبل، وبين أمته التي يجدّ في إيقاظها من غفوتها، وواقعه الذي يحارب لتغييره، فعثرات وعوائق من داخل هذا الشعر عطلت المهمة، وأفشلت السعي، يقول خليل حاوي: "فكيف يمكن أن يستمد الشعر العربي اليوم والمفروض أن يكون شعراً انبعاثيًا مضامين وأشكالاً شائعة في الشعر الغربي المعاصر وأن تكون لـه غذاء صالحًا؟ إن الانغماس في خضم الشعر الغربي دليل على فراغ نفوس بعض الشعراء العرب المحدثين من الحيوية المتوهجة المنطلقة التي تولد لذاتها وبذاتها مضامين وأشكالاً أصيلة غير مرتقبة"([41])، فالمضون غير الأصيل تطلب شكلاً أكثر افتقارًا إلى الأصالة، حتى صار الشعر عديم الأثر، ليس بسبب "انني أوقظُ الميّتين"([42])، ولكن لأنه كما قال نزار: "لم أعد أومنُ أن الشعر ديوانُ العرب"([43]). 

إن شعرًا يريد أن يغير الواقع لا يجوز له أن يتخطى عتبة التوصيل، بيد أن النظرية النقدية الحداثية، والطرائق الشعرية لها كلها تسير في اتجاه معاكس، يعطل التوصيل تعطيلاً مطلقًا، بتعمده الغموض وتجاوز النظام اللغوي، واتكائه على الرمز والأساطير، والدلالات النفسية الخاصة للكلمة، وإهماله العنصر الموسيقي، وتخليه عن وحدة البيت إلى وحدة القصيدة، وعن مفهوم الإيجاز التقليدي إلى التكثيف الدلالي.. وهذه الطرائق كلها تعيق التواصل المعرفي، وتخون الوظيفة الحضارية للشعر، أي إن شكل الشعر الحداثي يناقض وظيفته، ولغته تحجب مضمونه. ولا ننكر أن بعض شعر مدرسة الحداثة كان ناجحًا في تحقيق الوظيفة، وتوصيل رسالته الحضارية، وما ذاك إلا بقدر اقترابه من الطرائق الشعرية الأصيلة، وما توافر فيه من الوضوح، وقوة في الإيقاع الموسيقي، وتماسك في العبارة، واستعانة بالحماسة والفخر، وإيجاز التجربة في خلاصات حكيمة أو قوانين عامة.. هذه الطرائق أو بعضها استطاعت أن توفر لبعض النصوص الحديثة قوة تأثيرية في الواقع، وتطهرها من أوضار الفردانية التي كانت أساليب بنيوية لا مواقف فكرية فقط. وخير نموذج لما نقول كثير من شعر القضية الفلسطينية، وشعر نزار، الذي يقول: "أكتبُ../ كي تفهمني الوردةُ، والنجمة، والعصفورُ"([44])، وبعض شعر وأجزاؤه أنى عرضت لنا تلك الخصائص. 

خاتمة:

مهما اختلف النقاد حول علاقة الأدب بالوظيفة، فإن الأدب الذي يروم التأثير في الواقع، أو تغييره، لن يحقق مبتغاه إلا إذا استعان بـ"التأثير" للوصول إلى أعلى درجات "التوصيل"؛ أي بالإمكانات الجمالية للغة المضبوطة ضبطًا محكمًا بالتوصيل؛ وظيفةِ اللغة الأساسية. ما يعني أن "التوصيل" عتبة قصوى لا يجوز لـ"التأثير" تخطّيها، و"التأثير" عتبة دنيا لا يجوز لـ"التوصيل" الانحطاط دونها، هذا إن قُصد من الشعر أن يكون فعّالاً موجِّهًا لحركة التاريخ، وصائغًا لوعي الناس، محفِّزًا لأفعالهم. ولا فرق إن توسل الشعر بتقنيات جديدة أو قديمة شرط ضمان تحقيق هذه المعادلة، وهذا هو الجوهر الذي صاغ النظرية الشعرية العربية القديمة، ولأجله لن تجافي أية إضافة لا تخل به، أو تطعيم يتناغم معه، وهذا ما افتقد في معظم تقنيات شعر الحداثة التي ضحت بالتوصيل لأجل التأثير، أو انصاعت لـ"التعبير" الذاتي المتمرد على شروط التأثير نفسها!

المصادر:

1. ناصف مصطفى، 2000 ـ النقد العربي ـ نحو نظرية ثانية، مجلة عالم المعرفة، العدد 255، الكويت ـ آذار. 

2. الجاحظ عثمان بن بحر، 1998 ـ البيان والتبيين، تح: عبد السلام هارون، الطبعة السابعة، مكتبة الخانجي ـ القاهرة. 

3. المبرد، 1936 ـ الكامل، تح: زكي مبارك، الطبعة الأولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ مصر.

4. شكري غالي، 1991 ـ شعرنا الحديث إلى أين؟ الطبعة الأولى، دار الشروق ـ القاهرة.

5. أدونيس علي أحمد سعيد، 1996 ـ الأعمال الشعرية، أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى، دار الهدى للثقافة والنشر ـ دمشق. 

6. البياتي عبد الوهاب، 1968 ـ تجربتي الشعرية، الطبعة الأولى، منشورات نزار قباني ـ بيروت.

7. يونس شريف، 1999 ـ سؤال الهوية، الطبعة الأولى، ميريت للنشر والمعلومات ـ القاهرة.

8. العقاد عباس محمود، والمازني، الديوان في الأدب والنقد، الطبعة الثالثة، مطبعة الشعب ـ القاهرة.

9. الخطيب محمد كامل، 1996 ـ نظرية الشعر 3 مرحلة الإحياء والديوان، القسم الثاني (مقدمات)، منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق.

10. إبراهيم حافظ، 1937 ـ الديوان، الطبعة الأولى، دار العودة ـ بيروت.

11. شوقي أحمد، 1988 ـ الشوقيات (الأعمال الشعرية الكاملة)، دار العودة ـ بيروت.

12. محرم أحمد، 1984 ـ ديوان محرم (السياسيات)، الطبعة الأولى، مكتبة الفلاح ـ الكويت. 

13. البارودي محمود سامي، 1971 ـ الديوان، تح: علي الجارم ومحمد شفيق معروف، دار المعارف ـ مصر.

14. بدوي الجبل محمد سليمان الأحمد، 1978 ـ الديوان، الطبعة الأولى، دار العودة ـ بيروت.

15. الجواهري محمد مهدي، 1979 ـ الديوان، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق.

16. الوردي علي، 1971 ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، مطبعة الإرشاد ـ بغداد.

17. حسين محمد محمد، 1954 ـ الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، المطبعة النموذجية ـ مصر.

18. الخطيب محمد، 1962 ـ بدوي الجبل، حياته وشعره، مطابع ابن زيدون ـ دمشق.

19. الجيوسي سلمى خضراء، 2001 ـ الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، تر: عبد الواحد لؤلؤة، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت.

20. ويليك رينيه، وأوستن وارين، 1972 ـ نظرية الأدب، تر: محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ـ دمشق.

21. عمران محمد، 2000 ـ الأعمال الشعرية الكاملة 1963-1996، منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق.

22. عبد الصبور صلاح، 1972 ـ الديوان، الطبعة الأولى، دار العودة ـ بيروت. 

23. بغدادي شوقي، 1985 ـ عودة الطفل الجميل، الطبعة الأولى، منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق.

24. قباني نزار، 2002 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، الطبعة الأولى، منشورات نزار قباني ـ بيروت.

25. حجازي عبد المعطي، 1993 ـ الأعمال الكاملة، دار سعاد الصباح ـ الكويت. 

26. البياتي عبد الوهاب، 1990 ـ الديوان، الطبعة الرابعة، دار العودة ـ بيروت.

27. دنقل أمل، 1987 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، الطبعة الثالثة، مكتبة مدبولي ـ القاهرة.

28. فاضل جهاد، 1984 ـ قضايا الشعر الحديث، الطبعة الأولى، دار الشروق ـ بيروت.

29. علاق فاتح، 2005 ـ مفهوم الشعر عند رواد الشعر العربي الحر، منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق.

الهوامش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) متكلمًا على التصورات العميقة التي ترسبت في أعماق البلاغيين العرب وأملت عليهم مناهجهم، [1]: 238. 

([2]) القول لبشر بن المعتمر، ينظر: [2]: 1/136. 

([3]) [3]: 1/178. 

([4]) [3]: 1/178. 

([5]) [4]: 21. ما كان بين علامتين من عندي. 

([6]) [5]: 1/143. 

([7]) [4]: 26. وبسبب من سيطرة الذاتية أيضًا، مال أكثر شعراء الاتجاه الواقعي إلى الوجودية؛ لأنها تحقق هذا الدمج بين طموح الذات، وشروط التفاعل مع الواقع، وتمزج بين مفاهيم الحرية والثورة والالتزام، ينظر: البياتي، [6]: 17. 

([8]) ينظر: [7]: 110. 

([9]) [8]: 4. 

([10]) [9]: 3-2/547. ولحافظ إبراهيم قطعة شعرية غزلية يمزج فيها الغزل بالتعريض بالإنكليز، [10]: 1/248. 

([11]) [11]: 2/46. 

([12]) [12]: 1/273. ويتكرر الموقف نفسه عند البارودي الذي كان أول من تغنى بالمجد الفرعوني: [13]: 2/53. وشوقي الذي جمع في قصيدة واحدة الفخر بأمجاد الفراعنة وتراث العرب وعزّ المسلمين، [11]: 1/17، وينظر قوله في حب مصر: [11]: 1/66. ولحافظ إبراهيم أشعار في هذا المعنى يتغنى فيها بالفرعونية وأخرى بالخلافة الإسلامية، ينظر: [10]: 2/89، 2/118، و[14]: 67. 

([13]) [15]: 1/144. وينظر قصيدة "تعالوا نعد الصيد" في الفخر بأمجاد الأمويين في الشام والتغني بحب الشام، لبدوي الجبل، [14]: 534، و115. وتنظر قصيدة شوقي في صقر قريش عبد الرحمن الداخل، وقصيدته في رثاء الشهيد عمر المختار، [11]: 2/172..، 3/17..، 1/187..، وقصيدة حافظ إبراهيم في عمر بن الخطاب، [10]: 1/77.. 

([14]) [12]: 1/75. وينظر: [11]: 1/188. ولحافظ إبراهيم قصيدة يقرع فيها الأمة وشبابها اللاعب اللاهي في زمن الجد والملحمة، [10]: 1/256 وما بعد، و1/294. ونجد عند الجواهري قصائد مملوءة أملاً بالشباب وثقة بالمجد على أياديهم، [15]: 1/513، وأخرى يذم فيها الذات الغارقة في عيوبها وأنانيتها ولهوها، في حين تجدّ الشعوب في كل مكان لانتزاع حريتها، [15]: 1/455، 289. ولبدوي الجبل قصيدة تضاهي قصيدة الجواهري ثقة بالشباب وأملاً بهم، [14]: 530. 

([15]) قصيدة شوقي في المعلم معروفة مشهورة، [11]: 1/180..، وله قصيدة أخرى في نصح العمال وحضهم على الإتقان في العمل، [11]: 1/90..، وأخرى في دعم العمل الطوعي وتشجيع الناس على التبرع في مشروع القرش، [11]: 4/26.. 

([16]) ينظر: [16]: 4/373-374، 379، 5/43، 6/10. وينظر: [17]: 1/96-98، وينظر: [10]: 1/70، 260. وينظر في شأن مصانعة بدوي الجبل للاحتلال الفرنسي في مرحلة من مراحل حياته: [18]: ص37. 

([17]) استغل شوقي مكانته الأدبية والاجتماعية ورفع إلى روزفلت الرئيس الأمريكي الأسبق قصيدة يدعوه فيها إلى نصرة مصر وعدم خذلان قضيتها، بخطاب مملوء بالعزة والفخر تارة، وباللين والتودد تارة أخرى، ينظر: [11]: 2/54 وما بعد. 

([18]) ينظر: [15]: 1/268-270. 

([19]) [14]: 140، والرئيس هو شكري القوتلي. وينظر في معناه: [15]: 2/57. 

([20]) يحدد البارودي مفهوم الشعر بأنه "لُمعة خيالية يتألق وميضها في سماوة الفكر، فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب، فيفيض بلألائها نورًا يتصل خيطه بأسلة اللسان، فينفث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك، ويهتدي بدليلها السالك، وخير الكلام ما ائتلفت ألفاظه، وائتلقت معانيه، وكان قريب المأخذ، بعيد المرمى، سليمًا من وصمة التكلف، بريئًا من عشوة التعسف، غنيًا عن مراجعة الفكرة"، [13]: 1/55-56. 

([21]) [19]: 77. وينظر مقدمة الجزء الرابع من ديوان شوقي بقلم محمد سعيد العريان، [11]: 4/4. 

([22]) [19]: 79. 

([23]) [20]: 119. 

([24]) [21]: 1/40. وقول عبد الصبور: "عليّ وحدي أن أقودها إذا دعي النفير"، [22]: 1/287. 

([25]) [5]: 1/153، 152، 150. 

([26]) [5]: 1/361-364. 

([27]) وينظر نظير هذا الموقف عند محمد عمران، في: [21]: 3/136-137. 

([28]) [23]: 39. 

([29]) [23]: 42-43. 

([30]) [21]: 3/178. 

([31]) [23]: 41. 

([32]) [24]: 9/464. 

([33]) [24]: 9/433. ولعبد المعطي حجازي أبيات في المعنى نفسه، [25]: 113. 

([34]) [26]: 2/6. 

([35]) [24]: 9/432. 

([36]) [5]: 1/154. 

([37]) [27]: 110. 

([38]) [21]: 3/131. 

([39]) [28]: 356. 

([40]) [28]: 355. 

([41]) [29]: 70. 

([42]) [23]: 50. 

([43]) [24]: 9/434. 

الاسم

الآداب العالمية,1,الإحياء,1,الأدب العربي,1,الأدب العربي القديم,2,الأصالة,2,الانحطاط,2,الأنواع الأدبية,2,التراث,3,الحداثة,4,الحضارة الإسلامية,5,الحضارة الغربية,1,الخلافة العثمانية,2,الشعر العربي الحديث,4,اللغة العربية,1,المنهج الأدب,2,المنهج الحضاري,2,النقد الأدبي,1,النقد العربي,1,النقد العربي الحديث,1,النهضة,3,بحوث محكمة,5,بحوث ودراسات,7,تداخل الأنواع,1,تعليم العربية,1,تعليم العربية بالسليقة,2,تعليم العربية للأطفال,1,دراسات وأبحاث,2,رسائل علمية,2,عوامل الانهيار الحضاري,3,فلسفة الحضارة,3,قوانين الحضارة,2,كتب,3,كتب منشورة,3,مؤتمرات,3,محاضرات ومناهج,4,مقاصد الشريعة,1,مقالات,1,نظرية الأدب,7,وظيفة الأدب,5,
rtl
item
د. بتول أحمد جندية: الدور الحضاري للشعر العربي المعاصر، مدرسة الأصالة ومدرسة الحداثة ـ د. بتول جندية
الدور الحضاري للشعر العربي المعاصر، مدرسة الأصالة ومدرسة الحداثة ـ د. بتول جندية
لماذا تخلف الشعر العربي المعاصر، وما أثر العامل الحضاري في أزمته، بحث محكم، د. بتول جندية
https://3.bp.blogspot.com/qCwm6wgcLdi2eTCzf0hoqOsBf1-CjGA-qG5DuiJ-Vux4_gSmnUu8yrmYXVyWbYc_x-2oi5uQr4hPQybjnOkuEG930Fg-tGLci1OuxJ3PbCPYXgvhTX417ViQictGoMe_1mam53--TnQ3c4oh6c9kd5lYw3-3oV44zoZSCLmzNmRrs_F50t_qsSn7Aba8uZX5dUGxymoYH_5gsBPHlV3YmzTDXrGPplKKp-JOaZEDm1AM7dy5Qc5tX_xgEjtoFALcQoBYjBN8GEHNbuwpr3YMhn6qyKzDdNmJcY9FMwwXGBPuhAa4wMwBHYMRI_eSUJKdQ3WIpuB8j5za3pZuxci4-dTwXS5CaNN8LrvW51qmXg3JBX0Ivpo5IxmSDNS8JnL0BT4mjtDdPRc9zmVXubvERkPViXd5VslLgYKa02jJ7u3Z2pdU9c5y80VW8dzSuHr9wP32Dp81ER5Fce3gFGMldAXL270BDZXt-FlfcBOKjGDtwqgQyxD1Sy7pM4DCxgt4sjyxAnOf4_v8qDnAHE1P0ZyastDpFQx_hm7_4zWRt7dOUOyGE9hk3QiWGeqcp7D52nbIEGM94rMlkFPLxJJDgI1aTWEhYURPrQdQbTXwmADrDT2-=w1324-h662-no
https://3.bp.blogspot.com/qCwm6wgcLdi2eTCzf0hoqOsBf1-CjGA-qG5DuiJ-Vux4_gSmnUu8yrmYXVyWbYc_x-2oi5uQr4hPQybjnOkuEG930Fg-tGLci1OuxJ3PbCPYXgvhTX417ViQictGoMe_1mam53--TnQ3c4oh6c9kd5lYw3-3oV44zoZSCLmzNmRrs_F50t_qsSn7Aba8uZX5dUGxymoYH_5gsBPHlV3YmzTDXrGPplKKp-JOaZEDm1AM7dy5Qc5tX_xgEjtoFALcQoBYjBN8GEHNbuwpr3YMhn6qyKzDdNmJcY9FMwwXGBPuhAa4wMwBHYMRI_eSUJKdQ3WIpuB8j5za3pZuxci4-dTwXS5CaNN8LrvW51qmXg3JBX0Ivpo5IxmSDNS8JnL0BT4mjtDdPRc9zmVXubvERkPViXd5VslLgYKa02jJ7u3Z2pdU9c5y80VW8dzSuHr9wP32Dp81ER5Fce3gFGMldAXL270BDZXt-FlfcBOKjGDtwqgQyxD1Sy7pM4DCxgt4sjyxAnOf4_v8qDnAHE1P0ZyastDpFQx_hm7_4zWRt7dOUOyGE9hk3QiWGeqcp7D52nbIEGM94rMlkFPLxJJDgI1aTWEhYURPrQdQbTXwmADrDT2-=s72-w1324-c-h662-no
د. بتول أحمد جندية
https://drbjund.blogspot.com/2016/10/blog-post_21.html
https://drbjund.blogspot.com/
http://drbjund.blogspot.com/
http://drbjund.blogspot.com/2016/10/blog-post_21.html
true
2808715583222376053
UTF-8
طالع بقية المقالات لا توجد أية مقالات مقالات أخرى تابع القراءة Reply Cancel reply Delete By الرئيسة PAGES POSTS شاهد الجميع موضوعات ننصحك بقراءتها قسم أرشيف بحث كل المنشورات ليس هناك أية مقالات ذات صلة بطلبك ارجع إلى الرئيسة Sunday Monday Tuesday Wednesday Thursday Friday Saturday Sun Mon Tue Wed Thu Fri Sat January February March April May June July August September October November December Jan Feb Mar Apr May Jun Jul Aug Sep Oct Nov Dec just now 1 minute ago $$1$$ minutes ago 1 hour ago $$1$$ hours ago Yesterday $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago more than 5 weeks ago Followers Follow THIS CONTENT IS PREMIUM Please share to unlock Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy